16-نوفمبر-2015

مقاتل سوري معارض في أحد المعارك في حلب (Getty)

ربما هذا يحدث للمرة الأولى. جماعة تقوم بهجمات إرهابية متسلسلة، وناجحة، في دول مختلفة، وفي مدة زمنية قصيرة، في الوقت الذي تقوم فيه كل دول العالم، تقريبًا، بقصف معاقل هذه الجماعة، منذ أكثر من عام كامل، دون أن تنجح سوى في إرساء حدود لهذه الجماعة، ودون أي تنجح، خلال عشرات المؤتمرات السياسية واللقاءات الدبلوماسية، في أن ترسم ولو تصورًا نظريًا مبدئيًا لكيفة التعامل معها.

فجرت الوحشية الأسدية، واحدة من أكبر حركات الهجرة الجهادية في التاريخ الحديث، إن لم تكن أكبرها

يواجه العالم شيئًا جديدًا، بخطط قديمة، ومحفوظات سياسية، تنتهي به إلى تغذية الظاهرة التي يحاربها، وليس العكس. جماعة متطرفة، ذات حواضن شعبية، تنجح في استغلال تفاقم الحرب السورية، وتلكؤ العالم عن انهائها، وتقوم بإنشاء إمارة لها، قبل أن تنجح في ربط ذلك بدولة مجاورة، هي أصل منشأها -العراق- فتسيطر على واحدة من أكبر مدنها، وتقوم بإعلان "الخلافة" على أطلال المدن التي سمح لها العالم بالانهيار.

الأزمة السورية تصدر نفسها إلى العالم

يبدو أن الفشل العالمي، في التعامل مع القضية السورية، سيظل يلاحقه لسنوات قادمة. في ذروة الربيع العربي، واحتفاء العالم به، والمظاهرات المساندة له في العالم كله. أيام الزهور والتحول الديموقراطي، والنشطاء المصريين والتونسيين الذين يجولون العالم ليتلقوا المباركات والتهاني، كان العداد اليومي، لضحايا قصف بشار في سوريا، أكثر من أربعمائة قتيل، لم يعكر ذلك صفو أي شيء. لكن سوريا لم تكن مكانا يمكن أن ينهار في صمت ومنعزلًا عن ما حوله، بقدر تأزم الثورة السورية، كانت تنجح في تصدير أزمتها للعالم.

فجرت الوحشية الأسدية، واحدة من أكبر حركات الهجرة الجهادية في التاريخ الحديث، إن لم تكن أكبرها. حركة استفادت بالتأكيد من الزخم السلفي غير المنظم في الدول العربية ما قبل الثورة، لكنها أيضًا سامهت في إعطائه أكبر دفعة حيوية كان يتمناها في زمن ما بعد الثورات، وساهمت في حجز مكان رئيسي له في هذا العالم، وكما ترك العالم بشار يقتل السوريين، ترك العالم الجهاديين يدخلون من مكان إلى سوريا.

تُركت سوريا لمصيرها، كل طرف يستعين بمن بتحمس له، بعدما جاء الجهاديين بدعوى نصرة السوريين، جاء حزب الله لنصرة النظام، ثم التدخل الدولي ضد داعش، ثم تدخل إيران وروسيا دعمًا لبشار. ومع كل تدخل جديد، يعتقد الفاعل الجديد في الساحة، أنه قادر على إنهاء الأمور بضربة واحدة، وللأبد. كان ذلك ممكنًا فعلًا، لكن في البداية فقط، وفي البداية، لم يتحرك الغرب خوفًا من غضب روسيا وإيران، تركوا الأمور كما هي، بتواطؤ، من كان يريد أن تتحول سوريا لعراق آخر، مجرد ثغرة زمانية ومكانية، الدم يسفك فيها في كل مكان، دون أن يهتم أحد، سوى مجموعات من المبعوثين الأجانب الذين تنحصر مهمتهم في ضمان عدم امتداد الثغرة هذه إلى أماكن أخرى. لكن شيئًا حدث، غير ذلك.

أفاق العالم، مرة واحدة، على نجاح داعش بالسيطرة على الموصل، وإعلان الخلافة بقطع رؤس الناس، فأعلن حربًا عنيفة عليها، ثم استغرق في النوم ثانية، ولم يفق من نومه، إلا والسوريون يتجولون في باريس ولندن وبرلين ويتعاركون مع الأمن في السويد وبلجيكا والمجر، ويقذفون بأنفسهم على الجزر اليونانية، حينها قرر العالم، أن يجعلها قضية لاجئين. وصراع على التفاصيل وكيفية تقسيم اللاجئين على دول الاتحاد الأوروبي وكيفية تمويل ذلك.

لم تكن خطة تحويل القضية السورية لقضية السوريين، عبثُا تامًا، بالفعل ستظل قضية اللاجئين السوريين، قضية مزمنة، لن يعود الكثيرون إلى بلدهم مرة أخرى، يعرف الجميع أن الأزمة ستستمر سنوات طويلة، وحرب ستجر خلفها حرب، وهكذا، لكن حصر الأزمة في اللاجئين وفقط، وترك الأمور في سوريا نفسها، كحقل تجارب لكل عسكري يريد تجربة خطة جديدة، سيجلب لاجئين جدد، وكلما أصر العالم على إهماله للبحث عن حلول، سيكتشف مرة أخرى أن المشكلة أصبحت مشكلته هو وعليه التصرف.

الحلول التقنية جدًا.. الغبية جدًا

كل تدخل جديد، في سوريا، من أجل إغلاقها على نفسها، ينتج معه جسرًا جديدًا تعبر منه الأزمة على العالم

لكن العالم ممثلًأ في سياسي دوله الكبرى وأفكارهم، غير قادر على التعامل مع الأزمة السورية، ومع ما ينتج عنها، ويتخذ خطوات متناقضة في كل اتجاه، مرة يدعم النظام، ومرة الجيش الحر، ومرة يدعم الأكراد، ومرة تركيا، ثم يعود لدعم بشار، تخبط متتال، لا يدعم سوى تأبيد الأزمة، بتأبيد أسبابها. يجتمع العالم، ويعقد مؤتمرات كبرى للوصول لحل وتسوية القضية، لكنه لا يحقق شيئًا، ولم يدفع ذلك، الدول الكبرى، للتشكيك في طريقة تفكيرها وفي معقولية حلولها التي عفا عليها الزمن، الحلول التقنية جدًا، الغبية جدًا.

يكفي أن نتذكر أنه مازال مطروحًا في الأجندة العالمية، أن الأزمة السورية يمكن تسويتها بتشكيل حكومة انتقالية متفق عليها، وفي ظل رئاسة بشار، تقوم هذه الحكومة بتحضير الأجواء لانتخابات رئاسية مبكرة، تنهي حالة الصراع هذه. بل ويجتمع دبلوماسيين من هذا المعسكر مع دبلوماسيين من المعسكر الآخر، للاتفاق على تفاصيل الحكومة ومكوناتها وتمثيل الطوائف، والمدة المناسبة لبقاء بشار رئيسًا قبل الانتخابات،  يكفي أن نتذكر ذلك  لنعرف في أي ثغرة زمنية يقبع وزراء خارجية الدول الكبرى ودبلوماسيوها، ولماذا لم ينجح العالم في مجرد النجاح في عمل مقاربة نظرية لحدود الأزمة.

الحلول التقنية جدًا، الغبية جداً، التي يطرحها العالم من بداية الثورة، ليست سوى تأجيل في انتظار أن يحسم أحد الأمر على الأرض، تلك الفكرة البسيطة الشريرة التي فاقمت من مأساوية الحدث، لم تنغلق الحرب في سوريا على نفسها كما أراد الجميع، لاجئون يجولون في كل مكان، وواحد من أكبر التنظيمات الإرهابية في التاريخ، يفجر في كل مكان، والعالم يريد أن تنتهي الأمور وحدها. 

أو وهو الحل الأكثر شرًا، أن يتدخل بالشكل الذي يغلق سوريا على نفسها مرة أخرى، أو على الأقل، يتركها هي والعراق في ثغرتهم الزمانية والمكانية هذه، دون أي توسع، وهو الحل الذي يجد تفاصيله في الرغبة الروسية في عمل معسكر واحد يحارب الإرهاب، والإرهاب هنا، هو الإرهاب الذي ينجح في عبور الثغرة، إلى بقية العالم، ليجعلهم هم أيضًا، جزءًا من الحدث، يريد العالم قطع هذا الجسر فقط، القضاء على تنظيم داعش، والتنظيمات القريبة منه، عن طريق تحالف العالم بأكمله مع معسكر يضم بشار والجيش الحر، ثم عندما ينتهي تنظيم داعش، يمكن لسوريا كلها أن تذهب للجحيم، أو تظل فيه إن شئنا الدقة، مادامت لن تقدر على عبور الجسر إليه مرة أخرى.

بشار، بالتأكيد، قد يكون بنظر الغرب كله ديكتاتور سفاح ومجرم حرب، لكنه مجرم الحرب، الذي يعرف من يحق له قتلهم، ممن لا يحق له ذلك، وهو لذلك السبب تحديدًا، يظل خيارًا ممكنًا رغم كل شئ. وهو الخيار الذي يبدو أن العالم يفكر في تجربته، تجربة أن تتم هزيمة فصائل الجيش الحر والإسلاميين غير الدواعش أولًا، ثم ضم بقايا جيوب للجيش الحر هنا وهناك في تحالف مهترئ مع الميليشات الأسد والإيرانية، ثم أخيرًا، محاولة التقدم على معاقل داعش، وهو حل بالتأكيد ربما في حال الاندفاع نحوه بقوة، سيغير الخارطة العسكرية للحرب بشكل نسبي، لكنه لن يضع نهاية للحرب، فقط سينقلها لمرحلة جديدة.

التغييرات الدقيقة لن تقود إلى أي مكان

كمثل سابقاتها، الحلول الشريرة المتذاكية الجديدة هذه، لن تنتج إلا مزيدًا من تصدير الأزمة، الدفع باتجاه انتصار حاسم لمكون طائفي أقلوي، ضد مكون طائفي غالب، سيدفع في حال نجاحه، في اتساع الهجرة وتزايد اللاجئين، وستجد الدول المجاورة للأزمة نفسها في أزمة أكبر من التي تواجهها حاليًا، ولن تستطيع تجاهل أن اللاجئين أصبحوا ربما للأبد، جزءًا منها، ولن يمر وقت طويل، حتى يغير ذلك التركيبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول، ومعها زيادة الصراعات بينها.

كل تدخل جديد، في سوريا، من أجل إغلاقها على نفسها، ينتج معه جسرًا جديدًا تعبر منه الأزمة على العالم، والحلول المتذاكية للقفز حول الأسئلة الحقيقة، تنتج معها، أسئلة أكثر صعوبة لا يمكن لأحد حلها، والتغيرات الدقيقة جدًا، التي يريد العالم تسويقها، كحل للأزمة في سوريا، ستنتج معها تغيرات كبيرة جدًا، في مدى عالمية الأزمة. استمرار التذاكي والدوران حول الأزمة، لن يحل أي شيء، الأزمة السورية ستغير في طريقها الكثير من الأشياء، ولحلها ينبغي أن يتم تغيير كل شيء، ما دام ذلك سيحدث عاجلًا أم آجلًا.

اقرأ/ي أيضًا:

"داعش" يتراجع في سوريا والعراق..ويتقدم في باريس

عن الهجمات الأكثر دموية في تاريخ فرنسا