21-يوليو-2016

بانسكي/ بريطانيا

لم أكن أحب الوحدة، بل إن فكرة المنفردة كانت تصيب حواسي بالقلق، لا ماء، لا هواء، لا شيء آخر... هذا الاعتقاد القديم، كرهي للمعتقل وللزنزانة المنفردة لم يكن إلا ردة فعل على التعذيب، نعم إنه التعذيب، التعذيب في عينيها أجمل بكثيرٍ من الحرية الحمقاء، للتعذيب في عينيها مذاقٌ آخر يختلف عن مذاق البقاء.

لا يحق للمعتقلين أن يكونوا عاشقين، همهم أكبر من الحب وأصغر من هم الجائعين

كان موعدي الصباحي مع تلك التي أغض طرفي عنها وهي تسترق النظر إلى رائحة عطري يتجدد كل يوم، لم تكن تمتلك الكيد الكافي لتخفي نظراتها عني، أو أنها كانت تريد مني الانتباه لها، وأجزم أنها تريد الثانية، هي لم تعلم أن النبض يردد اسم أُخرى، لم تعلم أن الروح تسكن غابةً اختلط فيها لون السماء بلون الربيع واللذين يبعدان عني اليوم مسيرة دهر، الدهر الذي ألقى حمولته على عاتقي فابتعدت جسدًا عنها، أنا ما زلت هناك، ما زلت أتنفس دمعتكِ، وأخبئك في داخلي الذي يسكن عينيكِ.

اقرأ/ي أيضًا: بداية ثورة يناير نهاية الدكتاتورية والديمقراطية

هناك في زنزانتي المنفردة قضبان عينيها أقوى من سلاحي الورقي، فكل رسائلي التي كنت أرسلها طالبًا منها أن تصدر أمرًا بإخلاء سبيلي لم تكن القضبان أن تسمح لها بالعبور. أنا كاذبٌ إن قلت إنني أود التحرر، أنا عاشقٌ لذلك السجن ولو أني لم أدخله رغمًا عني لدخلته بإرادتي.

المعتقلات لم تكن مثلما اعتقدت، في المعتقل ترقص الشموع حزنًا، في المعتقل يهمس الليل في أذن العاشقين كل قصائد نزار، في المعتقل أسكب الريح في صدري الذي لم يعد فيه متسعٌ لغيركِ كي لا يداعب أجفانكِ غيري، في المعتقل أكتب لك ضياعي كلقلقٍ خانته الفصول فأصبح ضائعًا في البلاد، في المعتقل أخلق الفوضى كي تمدي يدكِ إلى عينيكِ فألمسها بتعويذة كاهنٍ يهودي كنت التقيته قبل زمانٍ نسيت مدته، قرأ طالعي وأعطاني التعويذة، في المعتقل لا تقوى عيناي على النوم كلي عيون وكلي قلب وكلي عاشق لكِ.

لا يحق للمعتقلين أن يكونوا عاشقين، همهم أكبر من الحب وأصغر من هم الجائعين، الجوع لا يعطي مساحةً لغيره، الجوع يأكل الحُب والحصى ويأكل المعتقلين، لكنه لا يأكلني، فالتعويذة أقوى من الجوع. عيناكِ غذاء روحي، في المعتقل أطوي قسوة السنين أرتبها كطفلٍ يرتب سكة القطار على دفتر رسمه، ويحرق رسمته كي لا يراها أبوه الذي لم يملك المال ليشتري ذاك القطار له.

سأحرق تلك السنين في ذا المعتقل، أنا هنا يا صديقتي، أنا هنا في معتقلي، فلتكف عيونك عن اختلاس النظر إلى رائحة عطري، فأنا معتقلٌ في عينيها وروحي تتغذى بأنفاسها.

اقرأ/ي أيضًا:

الفريضة الغائبة في الثورة المصرية

عن سيادة القانون في مصر