10-يوليو-2023
ثريدز

منذ أن أطلقت "ميتا" تطبيق "ثريدز"، وأنا أقف بقليل من الانزعاج عند الاسم الذي اختاره مارك زوكربيرغ لمنتجه الجديد، الذي نتحدث عنه وكأن مقرّ شركته في نهاية الزقاق أو في مجمّع أعمال مدينة عربيّة ما، فصرنا رغم المصائب الكبرى لتطبيقاته خلال السنوات الماضية نفضّله على إيلون ماسك، كما بات يناصره البعض في الحرب المعلنة الدائرة بينهما، فهجرنا دكّانة الأخير لنرى البضاعة الجديدة لدى غريمه، "الفتى السحليّة". 

ثمة صنعة بأكملها لهذه العملية في الولايات المتحدة، وثمّة أشخاص لا مهنة لهم سوى "تسمية" الأشياء

سريعًا وبزخم انطلق نشاط التطبيق المنافس، ورحنا ونحن ما نزال على نواصي تويتر، نفكّر بالكلمة الأنسب للتعامل معه وطرق أبوابه: هل ما نكتبه ثريدات؟ أم "أثرودات"؟ هل نحن "نثرّد" على التطبيق أم "نثردز"، وبدأت التعليقات تقارن بين "الثريد" على هذا التطبيق، وبين اسم الطبق العربي الأقدم في ذاكرتنا التراثية، والذي يعود تاريخ أول استخدام موثّق له إلى العام 13 قبل الهجرة، حين مدح أحدهم هاشم بن عبد مناف، الذي "هشم الثريد لقومه". اختلفنا أيضًا حول جمع الكلمة، هل ما نكتبه "ثريدات" أم "ثريدزات"، أم "تثريدات"، وهل من يكتب على "ثريدز" هو "مثرّد" على قياس "مغرّد" أم "مطرّز" كما اقترح أحدهم، بعد أن ربط بين معنى "الثريد" والنسيج والخياطة.

ورغم التفاعل العربي الواسع مع الاسم، إلا أنه ظل يستفزّني. فالاسم أمريكيّ جدًا لتطبيق غير أمريكي في النطاق الأوسع لمستخدميه، ووجدت في ذلك دلالة ما غير مباشرة على تلك الفوقيّة الأمريكية المعهودة في السياسة والاقتصاد والثقافة، إضافة إلى دلالته لو أردت على هشاشة مقولات العولمة بنسختها الغربية، ونقاط الضعف الحادّة بها، والتي تتجلّى بوضوح في طريقة تسمية الأشياء، والقوّة الكامنة في ذلك، والتي تكيّفها آلة الهيمنة لصالحها. فالافتراض هنا هو أن الإنجليزية لغة العالم، وهذا العالم تبع لمن يملك هذه اللغة وحقّ التسمية فيها وإخراج المنتجات إلى حيز الوجود ضمنها أولًا وكما يلائمها ويلائم أهلها، ولذا لا داعي لأي اعتبار لغويّ تداولي لغير الناطقين بها في المعمورة. ونحن هنا لا نتكلّم عن مطعم أمريكي محليّ بدأ صغيرًا في ولاية ما، ثم توسّع حتى صار سلسلة عالميّة، مثل "ماكدونالدز" أو "بابا جونز"، بل نتحدث عن منتج عالمي في أساس تصوّر نموذجه وطريقة الإعلان عنه وإطلاقه، وهو مع ذلك محليّ جدًا في اسمه. 

الأدهى من ذلك هو أن ما يظهر فيه غيابٌ للاعتبارات اللغوية للمستخدم غير الأمريكي يتعارض مع ثقافة أمريكية راسخة تجاه كلّ ما يتعلق بطريقة تسمية الأشياء. ثمة صنعة بأكملها لهذه العملية في الولايات المتحدة، ولها ثقافتها ومنظومتها الراسخة. فثمّة أشخاص لا مهنة لهم سوى "تسمية" الأشياء، وبهذه المهارة يُعرفون، وإليهم تلجأ كبرى الشركات بحثًا عن الاسم المناسب لمنتج أو خدمة جديدة، تيمّنًا بهذه القوّة الرمزيّة وإيمانًا بأثرها وفعاليتها في حياة المنتجات. وفي علم تسمية الأشياء، وهو مختلف عمّا يعرف بالهويّة الدعائية، أو "البراندينغ"، يستشهدون كثيرًا باسم تلك الحبّة الزرقاء، "فياغرا"، ويروون قصة صياغتها، ونحتها من كلمتين (الأولى vigorous، والثانية "نياغرا") وكم تكسّب ذلك المسمّي المبتكر من وراء هذا الاسم، وكيف صار مرجعًا في هذه الصنعة في قطاع الأدوية الأمريكية. أمّا من يعمل في هذا المجال، فهو "المسمّي"، وهي كما أفهمها كلمة تتداخل معنويًا مع كلمة "الخالق"، الذي ينفخ روحًا بالأشياء عبر تسميتها. الطريف أن هذه الحياة قد تطول أو تقصر، وحين تقصر ننظر أولًا بالاسم، ونلومه أو نتخيّل له لعنة ما قضت على المسمّى وأهلكته. نعرف نحن العرب هذا الأمر جيدًا في ثقافتنا الشعبية، وكثيرًا ما نسمع عن امرأة غيّرت اسم ابنها لتحميه من المرض المتكرّر، أو غيّر أهلها اسمها لتنجب لزوجها الذكور بدل الإناث. نعرف أيضًا كيف يهرب بعض اللاجئين اليوم من لعنة أسمائهم، في تركيا مثلًا، حيث تقرّر عائلات بأسرها تغيير الأسماء لتكون محليّة أكثر، اتقاءً لأي تمييز ضدهم. أما العنصري، فالأسماء كابوسه الأول، يبدأ أول ما يبدأ بمحوها وتغييرها وتطهير أي حيّز منها. حصل ذلك عبر التاريخ، من الأندلس ومحاكم التفتيش الأوروبية وحتى الحرب البوسنية، وحتى اليوم، حيث تعدّ فلسطين مختبرًا مفتوحًا ومعلومًا لعمليات العبرنة والتحريف وطمس الأسماء وقوّة التسمية الرسمية، ضمن إستراتيجيا هيمنة شاملة للمحتلّ.

زكي وزكية الصناعي

تتباين هذه العنجهية اللغوية الأمريكية في حالة "ثريدز" حين نقارن الاسم مع منتجات شبيهة أخرى غير أمريكية، مثل "تيك توك"، وهو النسخة العالمية من تطبيق صيني محليّ يعرف بين مستخدميه في أرضه باسم "دوويِن"، وهي كلمة جميلة تعني بالصينية "الصوت الرنّان". ورغم عدم وجود أي معلومات عن إستراتيجية التسمية في الشركة المطوّرة للتطبيق، إلا أن اختيار "تيك توك"، وهو اسم محايد في أصوات حروفه ومعناها، ينمّ عن منظور مغاير للعالم وعلاقات الهيمنة والتأثير فيه، تبدو مختلفة عن المقاربة الأمريكية التي لا تكف عن السعي وراء استدامة الاستغلال وتأكيد التفاضل الجوهري وعدم المساواة، وعبر التحصّن الدائم وراء أسوار لغة مهيمِنة.