دون انتماء لجغرافية محددة، دون هوية لوطنٍ ما، لا قوانين خارجية تُسيّر عجلة حركتك، كلّ قوانينك منبعها الذات، لا بيع لا شراء، لا تجارة ولا تعاملاتها... بالمختصر، لا رغبات حياتية خارجية، فقط مستنقعٌ للرغبات مُتكوم في داخلك، منه تقتنص حياةً أسطورية بكلّ ما تعنيها الكلمة من معنى على لسان 1900 نفسه، خالقُ وعائشُ هذه الحياة: "انتشلتُ حياتي من مُستنقع رغباتي" (ص 56).

من خلال الموسيقى التي كان يعزفها، خلق بطل رواية "1900"حياته بعيدًا عن كلّ حياة

"1900 مونولوج عازفِ البيانو في المحيط" (ترجمة معاوية عبد المجيد، منشورات المتوسط) رواية اليساندرو باريكو دوران الحياة حول ذاتٍ خالقة وأكيد خائفة: "لكن الأرض سفينة كبيرة جدًا على مقاسي، والحياة رحلة طويلة جدًا" (ص 54). هو ذا يعرّف نفسه بما سينبثقُ الخلقُ لذات شخص ولد على ظهر سفينة لم يغادرها أبدًا، وحين همّ في لحظة ما أن يواجه ما يقع خارج مساحتها، كبحت جماح هذه الرغبة التنازل عن كلّ الحياة لإنقاذ الذات: "أنا الذي لم أكن قادرًا على النزولِ من هذه السفينة، نزلت عن حياتي، كي أنقذ نفسي درجةً درجة. وكلُّ درجةٍ كانت رغبة. كلّ خطوة كانت رغبة. أقولُ لها وداعً الرُّوح" (ص 37)، " كانت كالسحر في جمالها وجودتها" (ص 38) هذا في تحد لم يكن يعني له شيئًا مع أشهرِ عازفٍ من الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: مونولوج أليساندرو باريكّو.. مسرح البحر مواجهًا يابسة الرواية

من خلال الموسيقى التي كان يعزفها، خلق حياته في ذلك البحر بعيدًا عن الحياةِ: "البحرُ يبدو صرخةً عظيمة، يصرُخ ويصرُخ قائلًا: أيُّها الحمقى، الحياةُ شيءٌ كبير جدًا، هل تفهمون ذلك أم لا؟ الحياةُ شيءٌ كبير" (ص 43).

من خلال روح كلّ الموسيقى التي كان يعزفها ويوّلدها، رأى كلّ العالم من خلال أرواح المُسافرين من كلّ حدبّ وصوب. ومن خلال تلك الأرواح تعرّف على كلّ الأوطان والبلدان التي تتلبسها، فالعالمُ يأتي إليه دون أن يغادر سفينتهُ أو يذهب هو إليها، فقط تتلاقى أرواحهم في روح موسيقاه: "يُتقن فنّ الإصغاء، والقراءة، ليست قراءةُ الكتب، فتلك يتقنها الجميع، إنما قراءة البشر، ملامح وجوه الناس تتشرَب كلّ الأماك والأصوات والروائح التي يصادفونها، يحملون أراضيهم وحكاياتهم فوق أجبنهم، كلّ شيء مكتوب على أجبنهم، كان يقرأ بعناية فائقة ويصنّف ويُرتب وينظم" (ص 21).

كان 1900 في اعتكافه في البحر على جغرافية سفينة حياته في بحثٍ دؤوب عمّا لم يرهُ، كأنّه في بحثٍ عن إلهٍ ما في مكانٍ ما لا يُرى: "لم أخف ممّا رأيت، بل ممّا لم أرَ... بحثت عمّا لم ير ولم أجده" (ص 51). إنّه بحث دون جدوى، لكن يقينية بقاءٍ بكلّ الجدوى التي خلقها وآمن بها، فامرأة واحدة يعزف لها كمثل كلّ نساء الحياة، ابن يخيله ككلّ أبناء الحياة، صديق يحكي له ككلّ أصدقاء العالم، وحين يرحل واحد وكأنّ الكلّ رحلوا، لم يكن يعتبرها حالة جنون، كانت طريقة نجاة:" لسنا مجانين حين نجدُ الطريق لنجاتنا" (ص 55).

كان يعتبر الحالة التي أوجدها لنجاته واليقين المنغمس بحياته، مكرًا على الحياةِ بحياة أخرى: "نحن ماكرون كالحيوانات الجائعة لا شأن للجنون بذلك، إنّها عبقرية، هندسة حسابية. إتقان. كنت ألفظ روحي رغبة رغبة. كان بوسعي أن أعيشها كلها لكنّني لم أنجح، وهكذا حولتها إلى سحر" (ص 55).

كما اختار 1900 حياتَهُ وخلقها، اختار أيضًا موتهُ حين خنقت الحرب العزف وكبّلت روح سفينة حياته

لا يتوانى اليساندرو باريكو صاحب "حرير" أن ينسج لـ 1900 حياةً محصورةً في داخله وبذكرياته، وعلى مساحة صغيرة من بحر شاسع، بحيث يتنفّسها عبر ألحان لا يدركها إلا هو وأنامله من البيانو الحاضنة الأولى له في ولوجه الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: آن سكستون: نشيدٌ لأجلِ السيّدَة

كما اختار 1900 حياتَهُ وخلقها، اختار أيضًا موتهُ حين خنقت الحرب العزف وكبّلت روح سفينة حياته بشوائب نميمة الحياة على اليابسة، وفتنة ومكر وغدر الناس فيها لتغدو المادة المشبعة بدينامية النهاية كما انفجار الحياة وموتها داخل 1900.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصة "المتمردة" لأمل بوشارب.. رسملة الضحية

ما وراء الرغبة في بيوغرافيا جوع إميلي نوثومب