07-يونيو-2020

الكاتبة أمل بوشارب

تمهيد:

يعتقد الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران Edgar Morin، أنّ التخلّفَ عمليةُ إنشاء عنيفة لنموذج غربي للتقدم، فرضه على الدول غير الأوروبية خارج شروطه التاريخية، فقد حمّل الغرب  مسؤولية ما آل إليه العالم من انقسامات وصراعات ولاعدالة في توزيع الثروات، ذلك أنّ قيمًا مثل البدائية والتوحش والتخلف والبربرية هي نتاج هذه المنظومة الغربية.

ويضيف موران بأنّ التقدم التكنولوجي لم يسايره تقدم أخلاقي مواز، لهذا فقد أنتج فقرًا نفسيًا وأخلاقيًا وعقليًا انعكس على صعيد العلاقات الإنسانية.

الوعي الأدبي المضاد للرؤية المركزية الغربية:

ظل الأدب من الخطابات الرمزية التي خاضت في معضلة القيم الإنسانية التي أنتجتها المركزية الغربية، هذه الأخيرة التي ألقت بالآخر خارج القيمة والتاريخ. وضمن هذا السياق برز أدب مضاد كان بمثابة رد بالكتابة على هذه المركزية بفضح أسسها الأيديولوجية. ويندرج أدب ما بعد الكولونيالية ضمن هذا النسق التمثيلي المضاد، الذي أعاد بناء الذات المشوهة من طرف أنظمة التمثيل الغربية.

السرد والتمثيل: ديالكتيك الذات والآخر

لم يخل الأدب العربي من تجارب أدبية متميزة أنتجت وعيًا أدبيًا مضادًا لأنظمة التمثيل الغربية، إذ تقول الناقدة والروائية السورية شهلا العجيلي بأنّ هاجس الكتابة الإبداعية العربية كان في مرحلة ما هو البحث عن الكرامة الإنسانية، وهذا ينطبق على الأدب الذي تشكل من داخل التجربة الكولونيالية، واستمر هذا الهاجس حتى بعد زوال الاستعمار في شكله التقليدي، إلا أنه طرأ عليه تحوّل بعد ذلك، وهو الحفاظ على الخصوصيات الثقافية. وفي هذا السياق حددت العجيلي ثلاث أنساق ثقافية هيمنت على الثقافة المعاصرة، وهي: المسيطر، والتابع، والغائب (1).

يعتقد الفيلسوف الفرنسي إدغار موران أنّ التخلّفَ عمليةُ إنشاء عنيفة لنموذج غربي للتقدم، فرضه على الدول غير الأوروبية خارج شروطه التاريخية

من هو الغائب؟ إذا لم يكن هو هذه الذات العربية المستلبة تاريخيًّا، والتي تبحث عن صوتها داخل نصوص أدبية كتبها الأدباء ليكسروا قوانين التمثيل التي أوجدها الآخر الغربي. فالعربي كان مجرد كائن صامت في السردية الأوروبية، لا يتكلم إلا بإذن من الراوي الغربي.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| أمل بوشارب: لا وجود لأدب مهجر معاصر

وفي تحليله لعلاقة الغرب بالثقافات الأخرى، أبرز الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني طبيعة هذه العلاقة، والتي تستند إلى ثنائية الذات/ الموضوع؛ حيث إنّ الغرب بمركزيته التي تشكلت عبر التاريخ الحديث أصبح يمتلك قوة تمثيل الآخرين، والتحدث عنهم بالنيابة، من خلال أنظمته التمثيلية التي تنفي عن الآخر ذاتيته، محولًا إياه إلى مجرد موضوع لنظامه التمثيلي، أو بتعبير آخر عمد الغرب إلى تحويل الآخر إلى مجرد صورة يستعملها لأجل التعريف بنفسه؛ أليس الآخر هو من يحدد هوية الذات؟

يقول المسكيني: "إنّ الآخر "اختراع" تريده ذات ما، ولذلك هو لا يعدو أن يكون عندها  "تمثيلًا" له بوصفه "موضوعًا" تنشئه بنفسها، ضمن "تجربة" تاريخية خاصة بها" (2).

انطلاقًا من هذا المدخل، يُمكن قراءة قصة "المتمردة" للروائية الجزائرية المقيمة في إيطاليا أمل بوشارب بوصفها امتدادًا لسلسلة من النصوص الأدبية العربية التي طرحت علاقة الغرب بالعالمين العربي والإسلامي. وفي هذه القصة ستحاول الكاتبة إبراز تمفصلات هذا الديالكتيك (غرب/ شرق) من خلال قصة مستلهمة من واقعة حقيقية، تدور في إحدى مكاتب المنظمات الإنسانية التي تستقبل المهاجرين العرب وغير العرب الباحثين عن اللجوء.

كتبت أمل بوشارب قصتها في سياق تاريخي وإنساني خاصين، تتصدرهما ظاهرة الهجرة إلى أوروبا التي ازدادت وتيرتها بعد ثورات الربيع العربي، وما أفرزته من تدمير شبه شامل للبنى التحتية لعديد من هذه الدول، بعد أن تحولت مطالب التغيير السلمي للأنظمة السياسية إلى حروب لاإنسانية أتت على الأخضر واليابس، فقضت على الملايين من المواطنين، وهجّرت الآلاف منهم، وشردت من بقوا في أوطانهم يواجهون الموت بكل أشكاله.

وهنا يتبادر إلى ذهني هذا السؤال المزعج: هل المحظوظ هو هذا المهاجر الذي قطع المتوسط إلى الضفة الأخرى من العالم؟

في قصة المتمردة، لم تدافع أمل عن الضحايا، أي عن لاجئي الحروب في العالم العربي، بل اجتهدت في قراءة المشهد ضمن مقاربة ديالكتيكية تصور علاقة الأوروبي بضحايا الحروب.

 لقد بنت الكاتبة قصتها على ثنائية الأوروبي/ المهاجر بغية فضح ما يتكشّف خلالها من تناقضات. وعبر هذه السردية وضعت الأصبع على أصل المعضلة الإنسانية بين الأوروبي والمهاجر، وهي معضلة التمادي في  إساءة فهم الآخر.

رسمت لنا بوشارب شخصية معقدة جدًا هي الفتاة لوتشيا، التي تتفاجأ عندما تكتشف حقيقة صديقتها الصحافية السابقة مارتشيلا، التي تعمل في منظمة للاجئين تسمى "صاحبة الرداء الأحمر".

لقد كشفت الكاتبة تناقضات الشكل والمضمون في هذه المنظمات الإنسانية، فهي في الظاهر، يكمن دورها في تقديم إعانات لضحايا الحروب، أما من حيث أهدافها الخفية، فهي مجرد وكالة تجارية تشتغل في تجارة البشر، واستغلال مآسي اللاجئين لأجل جني المال. فالمسألة تجارية.

يقول المسكيني: "إنّ الآخر "اختراع" تريده ذات ما، ولذلك هو لا يعدو أن يكون عندها  "تمثيلًا" له بوصفه "موضوعًا" تنشئه بنفسها، ضمن "تجربة" تاريخية خاصة بها"

لوتشيا هي شابة إيطالية تتميز بخصال غريبة، فهي مولعة بمتابعة أخبار القتلى، وتجد متعة عظيمة في البحث عن الأحداث التي تكثر فيها جرائم القتل المروعة. كانت تحب زيارة جدتها، فقط لأجل اللقاء بالنساء اللواتي فقدن أزواجهن، فتحاول أن تأخذ منهن أدق التفاصيل عن طريقة موت هؤلاء الأزواج. ومع مرور السنوات، تطورت نزعتها الغريبة إلى ضرب من الهذيان، فكانت تتخيل نفسها تقتل والديها.

"كانت لوتشيا، على نحو ما، مدركة لهذ الطابع الغريب من اهتماماتها، التي كانت تستلهم منها لذة لا نظير لها، لكن وفي الوقت ذاته، تجعلها تشعر بالمعاناة، وكأن الأمر يتعلق بذنب يجدد نفسه باستمرار ولا يترك لها فرصة الندم على اقترافه. ومن بين جميع هذه الذنوب كانت التقارير الإخبارية التي تجذبها على نحو خاص، ربما لأنها كانت ذات طابع يمس عددا كبيرا من البشر، هي الريبورتاجات الخاصة بالحروب".

تعي هذه الشخصية غرابة طبائعها الإجرامية، لكنها وفي الوقت نفسه تعترف بأنّها تخلّف داخلها إحساسا بالذنب، وإن كان بلا تأثير مباشر عليها. وفي مكان آخر من القصة، لا تبدو لوتشيا مكترثة تماماً بمشاعر الذنب، بل نجدها على لسان السارد تبرّر نزوعها الغريب بأنّه ميل طبيعي فيها، قد يوجد في أيّ إنسان. إنّها هنا، تؤسس موقفها على المبدأ التالي: أنّ الطبيعة الإنسانية شريرة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| يولاندا غواردي: مهمة الأدب تدمير الكليشيهات

ذات يوم تتلقى لوتشيا دعوة من صديقتها الصحفية السابقة مارتشيلا، التي تعمل في منظمة غير معروفة جدًا، لكنها تنشط في مجال الهجرة واستقبال اللاجئين القادمين من منطقة الشرق الأوسط.

عندما وصلت إلى مكتب المنظمة، أثار اهتمامي الصور التي كانت تزيّن جدران مكتب الصحفية، فكانت لفتة فنية من الكاتبة التي أرادت أن تمهد القارئ لما يُمكن أن يقع مستقبلًا في القصة، بل أنّ هذه الصور هي مفاتيح تأويلية مهمة، نجحت القاصة في توظيفها.

"تأملت لوتشيا اللوحات المعلقة على الجدران في مكتب مارتشيلا تظهر مهاجرين يائسين في عرض البحر، وأخرى تظهر لقطات لأطفال أفارقة يعانون من سوء التغذية، ونساء يرتدين الحجاب ينتحبن أمام الأنقاض".

هذه الصور التي أثثت مكتب مارتشيلا غذت مخيال لوتشيا، لأنّها جسّدت النظام التمثيلي للأوروبي إزاء الأقوام الأخرى. وكان الهدف من هذا التبئير السردي على الصور هو إبراز الطابع الثابت فيها، كإحالة ذات دلالة موحية إلى حقيقة الآخر الثابتة؛ فالصورة الفوتوغرافية قد تكون هي المعادل الموضوعي للوحة الاستشراقية التي رسّخت صورة ثابتة عن الشرق وعن الإنسان الشرقي، بوصفها حقيقتهما المطلقة.

وإذا تأملنا جيدًا موضوع هذه الصور سنُدرك أنّها تفيض بمجموعة من الأفكار النمطية عن المهاجرين الهاربين من أتون الحروب في اوطانهم الممزقة. فلم تشذ تلك الصور عما يتداوله الإعلام الغربي حول المنطقة العربية والإسلامية. وكان لقاء لوتشيا بالفتاة العربية التي تدعى جميلة هو تأكيد على سلطة المخيال النمطي حول الآخر، لتنوب تلك الصور عن الواقع، بل وتزيحه تمامًا، لتغدو هي بالذات الواقع البديل.

لم تقع قصة بوشارب في المباشرة، فهي حرصت على توزيع العلامات الثقافية في نصها، فهي تعرّف الأمكنة والشخصيات من خلال تلك العلامات:

"في الواقع، كانت لوتشيا قد أخذت جرعة من الطاقة، فور دخولها المكان، حين التقت بفتاة صغيرة مبتسمة بشعر أشقر وعينين سوداوين، كانت صحبة والدتها العربية على الأرجح بسبب ما كانت ترتديه من ملابس. اقتربت لوتشيا منهما على طريقتها الخاصة: "أيتها الطفلة المسكينة، لقد خرّبتم بلدكم، ولم يعد لديك أي منزل!". قالت لوتشيا مداعبة شعر الطفلة المجعد، وفكرت أنها كان يمكن أن تلتقط معها صورة تنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، لو كانت زنجية: "أين زوجك؟ هل قُتل في الحرب؟" توجهت لوتشيا بالسؤال لوالدة الطفلة بنبرة لا تخطؤها".

إنّ الهوية هي شبكة من العلامات، وهي بالنسبة للوتشيا شبكة جاهزة من التقييمات السابقة التي كانت تحملها داخلها في شكل حقائق بديهية. من هنا فإنها تمكنت من معرفة هوية هذه الفتاة من لباسها، فاستنتجت مثلًا أنها من العرب المهاجرين الذين فروا من الحرب.

والأخطر من هذا، أنّ لوتشيا منحت الحق لنفسها لأن تبتكر هوية لهذه الفتاة ولوالدتها؛ فهما ضحيتان، وهما في نفس الوقت بلا أي مأوى، لجأتا إلى إيطاليا هربًا من الحرب، بعد أن ساهمتا في تدمير بلدهما! ولا يُعقل أن تكون صورتهما خارج هذا البروفيل الجاهز.

"مما لا شك فيه أننا نعيش اليوم أسرى عالم تتلبس فيه الصورة الثقافية مسرح الحقيقة المطلقة، حيث تسهم بكل الأشكال في تعميق الهوة الفاصلة بين ضفتي العالم العربي – الإسلامي والغرب، من خلال ما تجليه هذه الصورة من أبعاد لإنسان هي في الحقيقة من اختلاق أوهامنا ولا تربطها بالواقع صلة إلا بالقدر الذي تستجيب فيه لرغبتنا في تحقيق الأنا عبر هدمنا للآخر" (3).

 يتحرك وعي لوتشيا هنا داخل تصوّر مفارق للحقيقة التاريخية، لأنها اتهمت الفتاة وأمها بتدمير وطنيهما، مستبعدة بذلك مسؤولية الغرب نفسه في التخطيط لهذا الخراب العربي، منذ الاستعمار وصولا إلى الحرب على الإرهاب وما تمخض عنه من ثوران شعبي ضد الأنظمة العربية.

"عرفت لوتشيا أنّ اللاجئة قد فهمت إذًا كلامها، وشعرت بدفقة مضاعفة من الحيوية وكأنها أتت لتحرر لذة مكبوتة داخلها؛ لكنها في الوقت نفسه لم تكن تعرف على وجه الدقة أي شعور بالقوة والتفوق كان ذلك. كما لو أنّ تلك المخلوقات كان محكومًا عليها بالدونية وهي لم تقم سوى بإبراز هذه الحقيقة لها، وشعرت إلى جانب ذلك أنه بوسعها إذلالها".

تعمل القصة هنا في هذا المستوى من السرد على إبراز ثنائية الرفيع والدوني. وهذه الثنائية تفسّر طبيعة تفكير لوتشيا كشخصية نموذجية ترمز للأنا الغربية المشبعة بالتعالي. إنّ الآخر هو بالضرورة الدوني.

 "ربما كانت الصدفة فقط هي ما دفعها اليوم على هذا المسار، فبدل أن تطلب مارتشيلا المشورة المهنية فيما يتعلق بأطفال المهاجرين، قدمت لها ملفًا يتعلق بالبالغين الذين ربما كانت مارتشيلا تعتبرهم على نحو ما قاصرين، على غرار ذوي الاحتياجات الخاصة ذهنيا، غير القادرين على اتخاذ قرارتهم والتفكير بأنفسهم. وقد كان هؤلاء يحتاجون دومًا إلى مساعدة المنظمة التي كانت تعمل بها".

الآخر إذًا، لا يرقى إلى درجة الإنسان السوي والراشد والقادر على اتخاذ القرارات الحاسمة بنفسه. هذا يعكس الخطاب المضمر الذي تخفيه المنظمات الإنسانية التي تتعامل مع المهاجرين، فهي تعتبرهم مجرد بشر قاصرين، بل لا يختلفون عن الذين يعانون من تخلف عقلي. يقول الباحث الجزائري محمد بكاي:

"إنّ النزوع الشديد نحو الوحدة والاحادية والذي رافق التقاليد الفلسفية والميتافيزقية الغربية منذ القدم باهتمامها بالعقل والذات أو الأنا، يشكّل طرحا خطيرا أخلاقيا بإقصائه للكثرة وللهو أي الآخرين في الوجود" (4).

في قصة المتمردة، لم تدافع أمل بوشارب عن الضحايا، أي عن لاجئي الحروب في العالم العربي، بل اجتهدت في قراءة المشهد ضمن مقاربة ديالكتيكية تصور علاقة الأوروبي بضحايا الحروب

تبرز هذه الخطورة الأخلاقية في موقف لوتشيا من الفتاة العربية، في تصنيفها للآخر خارج دائرة العقل، فقد اعتبرت الفتاة العربية إنسانًا ناقصًا، لا تقدر على التفكير بنفسها، ولا على اتخاذ القرارات الحاسمة. والدليل أنّ هذا الآخر عاجز عن العيش في أوروبا والتعايش مع ثقافتها، دون أن يحظى بمساعدة المنظمات الإنسانية ورعايتها.

لقد حرصت القاصة على إبراز شخصية  مارتشيلا في صورة إنسانية:

 "يجب ان نساعدهم. قالت مارتشيلا".

 لكن سرعان ما نكتشف وجهها الحقيقي، بسقوط الأقنعة عن وجهها، وعن منظمتها الإنسانية. فالحرب أصبحت مصدرًا للثراء، فبسبب الأمواج المتدفقة من المهاجرين، وُجدت الآلاف من مناصب العمل للأوروبيين، في قطاع وصفته القصة بـ"قطاع العطف على الإنسان"، وهو يشبه قطاع العطف على الحيوان. إذ يبدو أنّ آخر ما يفكّرون فيه هو معرفة أسباب هذه الحروب.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| الشاعر بيتر نوبيرغ: الشعر السويدي معادٍ للاستهلاك

يتحول العربي في نظر مارتشيلا إلى مجرد جثة مسيسة تدرّ بالمال.

"أما وكيف اندلعت الحرب في ذلك البلد فلم يكن لصديقة لوتشيا علم بذلك، بالرغم من أنها كانت تحرص على تقديم نفسها دوما "كصحفية"، ولكن بما انها الآن كانت تحصل على وظيفة وراتب، من كان ليأبه بالأمر. فلتحرق الشمس جثث من يموت في الحرب وليتراكم عليها الغبار النجس. ولتتظاهر مارتشيلا، حتى لو كانت "صحفية"، بعدم معرفة المستفيدين من دم الضحايا، لأنها لم تكن متخصصة في الشؤون الاقتصادية، ولكن فقط في شؤون الجثث المسيسة الميتة منها والحية".

عندما لا تتكلم يٌشوّه صوتُك:

أما عن طريقة إدارة هذا الاستثمار فهي على النحو التالي: تقوم لوتشيا باستنطاق المهاجرين، فالكلام في نظرها هي طريقة مثالية لإنقاذهم من وضعهم المزري. هل نفهم من ذلك أن ضحايا الحروب هم أيضًا ضحايا الصمت؟

يُمكن استثمار بعض تحليلات فرانز فانون، خاصة في علاقة اللغة بالآخر؛ فقد وجد فانون، بتأثير من هيغل، أنّ اللغة عنصر ضروري في التبادلية، أي في إمكانية خلق لغة مشتركة للتواصل بين الذات والآخر؛ وشرط نجاح التبادلية هو وجود لسان مشترك، لأنّ التكلم إلى الآخرين يعني الاعتراف بهم كأشخاص. غير أنّ غياب هذه اللغة المشتركة يؤدي دائمًا إلى نشوء الصراع (5) وحسب هيغل، فإنّ ديالكتيك السيد/ العبد قائم على صراع حتى الموت، وما ينتظره المنتصر هو خدمة وليس خطاباً. صحيح أن فانون يحلل هذا الديالكتيك في سياقه الكولونيالي، كأن يصف المستعمَر بأنه يعاني من عقدة نقص نتيجة لموت ودفن أصالته الثقافية والمحلية، غير أنّ تحليلاته تصدق إلى حد كبير لإضاءة جوانب من علاقة الأوروبي اليوم مع هؤلاء اللاجئين الذين لفظتهم الحروب. فاللغة ترتبط بغياب الاعتراف. وقصة بوشارب تصب في قلب هذا الإشكال الثقافي ألا وهو: عدم الاعتراف بالآخر.

يبرز في القصة جزء مهم من هذه العلاقة بين اللغة والاعتراف. ذلك أنّ دور لوتشيا هو أن تدفع الفتاة العربية إلى التحدث.

وإذا تأملنا جيدًا طبيعة البناء الحواري بين الشخصيتين، سنجده قائمًا على أساس تراتبية واضحة، لوتشيا التي تملك سلطة الخطاب لأنها من يتحكم في مساحات الكلام والصمت، وجميلة التي ليس لديها إلا واجب الرد على الأسئلة بوصفها الطرف الأضعف.

لقد فقد الحوار جوهره الحواري، وتحوّل إلى ضرب من الاستجواب البوليسي، ليس لإقرار حقيقة ما، بقدر ما هو لإثبات تهم معينة.

كان أسلوب لوتشيا في طرح الأسئلة عنيفًا، بل كانت تدفع بجميلة إلى أن تحرّف الحقيقة، وتقدم لها الإجابات التي تريدها.

"علينا حتما ان نشجعهم على التحدث والكتابة عن تجاربهم مع الحرب، وذلك لمساعدتهم على الانفتاح أكثر فأكثر".

هكذا كانت تبرّر مارتشيلا طبيعة عملها.

"كلما زادت عدد التقارير من هذا النوع كلما زادت أرباحنا".

إرادة عدم التفاهم:

انطلقت لوتشيا من معلومات عامة عن البلدان العربية، ولم تحاول حتى معرفة البلد الذي جاءت منه جميلة، ولا عن أصولها الثقافية. كانت المرجعية المتحكمة في الاستجواب هي مجموعة من الأفكار النمطية والاختزالية، وبسببها لم تتوصل لوتشيا إلى أي نتيجة، بل بدت وكأنها تستجوب الإنسان الخطأ.

فعندما سألتها عن والدها، فقد كانت تتصور أنّ الأب العربي هو بالضرورة أب قاس، لهذا سألتها إن كانت تتعرّض للتعنيف من طرفه. وبنفس النسق سألتها إن كان هذا الأب قد اعترض عن زواجها بالرجل الذي تحب.

النزوع الشديد نحو الوحدة والاحادية والذي رافق التقاليد الفلسفية والميتافيزقية الغربية منذ القدم باهتمامها بالعقل والذات أو الأنا، يشكّل طرحا خطيرا أخلاقيا بإقصائه للكثرة وللهو أي الآخرين في الوجود

لكن، في كل مرة كان رد جميلة بالنفي. بل كانت تردد على لوتشيا بأنّ والدها مات منذ سنوات، وكان لا يعاملها بقسوة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| غرادا كيلومبا: الأبيض ليس لونًا

إجابة جميلة أصابت لوتشيا بالإحباط. فقد كسّرت فيها أفق انتظارها إن صحّ التعبير. فكل ثقافة تبني عن الثقافة الأخرى مجموعة من التصورات، وقد يحدث أن يقع سوء التفاهم بين ثقافتين بسبب غياب إطار معرفي مشترك يوفّر شروط التفاهم والاعتراف المتبادل.

"إذ لا تشمل الأسس التي يقوم عليها الاحتقار التمثيل الوصفي الخاطئ وحسب، بل تقوم كذلك على وهم الهوية المفردة التي يجب على الآخرين أن يصنّفوا بها الشخص الذي يُراد الحط من قدره" (6).

أما عندما سألتها عن الحرب في بلدها الأصلي، فردّت عليها بأنّ بلدها لم يعرف أية حرب.

"بذلت لوتشيا جهدا لإخفاء إحراجها في تلك اللحظة: "هل مات والدك في الحرب؟" "هل قتلوه أمام عينيك؟". ردت جميلة بتعقل، "أي حرب تقصدين؟"، "حربكم الأهلية"، ردت لوتشيا بثقة".

يبدو أن ثمة خللًا ما. هذا ما شعرت به لوتشيا، وإلا ما الذي يفسر هذه الإجابات التي لم تأت على النحو الذي تريده؟ ففي كل مرة تؤكد لها جميلة بأنّ بلدها لا يملك رئيسًا، وأنها لم تعرف في حياتها تلك الفظائع التي تتحدث عنها لوتشيا، كما أنّه ليس لها حبيب.

التنميط الجنسي:

لم تتوقف أسئلة لوتشيا عند حدود السؤال الاجتماعي والسياسي، بل اقتحمت المناطق الحميمية في حياة جميلة، لأجل معرفة علاقتها بجسدها وبالجنس، وبعاداتها الجنسية. فجاءت أسئلتها غريبة، بل وفاضحة.

 "أنت لم تمارسي الجنس مطلقًا، أراهن على ذلك".

وفي مكان آخر

"هل سبق لك ان حاولت ممارسة الحب مع امرأة في المقابل".

ثم تدفع بأسئلتها إلى أبعد منطقة

"سأقول لك شيئًا ما، أول ما عليك فعله هو إقناع نفسك بأن أي شيء يمكن أن يكون هدفًا للرغبة الجنسية، ماكينة خياطة، أنبوب اختبار، حصان أو حذاء، أي شيء"

ثم طلبت منها ان تكتب لها عن رغباتها المكبوتة، بل أن تخترعها إذا كانت غير موجودة.

تنتمي قصة المتمردة لأمل بوشارب إذا إلى ذلك النسق من الكتابات التي تنتقد الآخر الأوروبي، لتسقط عنه أقنعته الإنسانوية

كانت لوتشيا تدفع جميلة إلى نسف ذاتها، وابتكار ذات جديدة تكون على مقاس ما تريده هي: فتاة مضطهدة، تعاني من نزعات جنسية غريبة.

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن مفضي الجدعان الجديد

إن خطاب جميلة هو بمثابة الخطاب المعارض لخطاب لوتشيا، إنه يرسم الصورة غير المرغوبة في المخيال الغربي عن الآخر الشرقي، الصورة التي تم نفيها واستبدالها بصور أخرى. لقد خرجت عن الإطار المرسوم لها سلفًا، أي صورة الفتاة المضطهدة، والشاذة التي تعاني من رغبات منحرفة.

خاتمة:

تنتمي قصة المتمردة لأمل بوشارب إذا إلى ذلك النسق من الكتابات التي تنتقد الآخر الأوروبي، لتسقط عنه أقنعته الإنسانوية، لنرى الوجه الذي تخفيه وسائل الإعلام. وعلى الرغم من أنّ القصة كانت قصيرة، إلّا أنّ أمل وُفقت في الإمساك بأطراف هذا الموضوع الشائك والمعقّد. فشخصياتها المركبة تمثّلت أفكارها، وأبرزت من خلالها طبيعة الإشكاليات المعاصرة التي تتحكم في علاقة أوروبا بالعالم العربي، وهي من طبيعة تأويلية؛ فإساءة الفهم ناجمة عن المرجعيات الخاطئة في فهم الآخر.

 

هوامش:

1-شهلا العجيلي، الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، الدار المصرية اللبنانية، ط01، 2011، ص73.

2- فتحي المسكيني، الدين والإمبراطورية (في تنوير الإنسان الأخير)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بيروت والرباط، ط02، 2016، ص142.

3- نصر الدين بن غنيسة، في المثاقفة والنسبية الثقافية، ص 18.

4- محمد بكاي، أرخبيلات ما بعد الحداثة، ص 291.

5- يُنظر: نايجل غبسون، فانون المخيلة ما بعد الكولونيالية، تر: خالذ عايد أبو هديب، المكرز العربي للأبحاث ودراسة السياسة، قطر ولبنان، ط01، 2013، ص70.

6- الهوية والعنف وهم القدر، ص40

 

اقرأ/ي أيضًا:

القلق الإبداعي ما بين ثوب الشاعرة الشفّاف ونصّها الروائي

آن سكستون: نشيدٌ لأجلِ السيّدَة