31-يناير-2024
غلاف رواية هناك حيث ينتهي النهر (ألترا صوت)

غلاف رواية هناك حيث ينتهي النهر (ألترا صوت)

في روايتها "هناك حيث ينتهي النهر" (دار الكتب خان، 2022)، تحكي الكاتبة المصرية مريم عبد العزيز قصة فتاة تُدعى سلمى تعيش بمفردها في مدينة القاهرة، حيث تتصارع مع العزلة وتُعاني من انعدام الروابط العائلية والعاطفية بعد وفاة وتخلي حبيبها عنها.

تبدأ الرواية باكتشاف سلمى، بعد أن أفاقت من صدمة موت والدها، أنها لا تعلم أين جرى دفنه، فهي لم تعرف عن عائلته سوى ما سمعته من جدتها نبيهة التي كانت تقول إن إخوته من والده أخذوا حقه من الميراث ولم يكن بينهم أي صلة، لكنهم ظهروا فجأة في المستشفى لاستعادة الجثمان ودفنه بجانب قبر والدهم.

كانت سلمى آنذاك في عالم آخر، وكل ما تتذكره هو رؤية النخيل على الجانبين وهي تركب سيارة تسير خلف أخرى تحمل جثمان والدها. لذا، تُقرِّر البحث عن القبر كمحاولة أخيرة لتفادي الشعور بالغربة في بلدها – كمان كان يشعر والدها – وتبدأ رحلتها بفحص أوراق والدها وكشف النقاب عن أجزاء من حياته: عقود الزواج، وأعياد الميلاد، وبطاقات الشكر. ومن بين الأسماء المتكررة، تبرز عائلة "غراب" ومدينة رشيد، أو مدينة المليون نخلة.

تعكس رحلة شخصيات الرواية الواقع المحزن لعصرنا، حيث نميل إلى البحث عن أصدقاء يشاركوننا ندوبنا وهزائمنا وانكساراتنا بدلًا من أحلامنا

تسافر سلمى إلى رشيد وهي لا تحمل سوى صورة زفاف قديمة تتضمن عنوانًا في المدينة الغامضة، لكن سرعان ما فتحت إليها رشيد أبوابها من خلال امرأتين، تُدعى الأولى "أم بطة" التي تعرَّفت عليها سلمى في الأوتوبيس، وألحَّت عليها أن تزورها في منزلها. أما الثانية فتُدعى جميلة، وهي إحدى فتيات عائلة تدعى "غراب" كذلك، لكنها ليست العائلة التي تبحث عنها سلمى، وإنما العائلة التي تحتاج إليها.

لدى أم بطة وجميلة قصصهما الخاصة. فمثلًا، الطفلة بطة ليست ابنتها وإنما حفيدتها لابنها عماد الذي خسرته في البحر أثناء محاولته الهجرة، ومنذ عامين وهي تسعى خلف جثة تدفنها. وكلما سمعت عن حادثة غرق جديدة ركضت إلى المستشفيات والشاطئ والمشرحة للبحث عن نتفة من ملابسه تريح قلبها المحترق. وهذا ربما ما قرّب بينها وبين سلمى التي ستصبح أمًا لها، ذلك أنهما تتشاركان البحث عن رفات من تحبان.

ولجميلة أيضًا حكايتها مع البحر، لكنها لا تتعلق بالحداد مثل أم بطة بل بالأمل، ذلك أنها لا تنتظر جثة وإنما حبيبها وخطيبها حسين الذي أحبته وأحبها وقرر السفر للبحث عن حياة أفضل لهما. وبالرغم من مرور سنوات طويلة على سفره، لكنها ما زالت تعيش على أمل عودته إليها رغم إلحاح أخيها "الريس مصطفى" بأن تتوقف عن إهدار حياتها على أمل ضائع، ومواصلتها مع شخص آخر.

ومع أن حياتهن محاطة بالمآسي، لكنهن ما زلن قادرات على العيش واكتشاف الجمال والأمل في أكثر المواقف عبثًا وسوداوية. ولا يزلن كذلك قادرات على العطاء، فأم بطة تغمر الآخرين من حولها بالحنان مع كل حركة من يديها، ولجميلة قدرة هائلة على ملاحظة همسات الحب الأول حتى قبل أن يدركها صاحبها. وأمام هذا الجمال والود المتدفق من مشاهد النساء الثلاث، تتجلّى حقيقة أن أولئك الذين يفتقرون إلى شيء ما، غالبًا ما يعطونه وينتبهون إليه أكثر من أي شخص آخر، بل ويشكّلون روابط تتجاوز المفاهيم التقليدية للعائلة.

ومن ضمن قصص الحب التي تلاحظها جميلة تلك القصة التي تنشأ بين سلمى ومدرس التاريخ حامد الذي نراه لأول مرة يجر طفلًا من رقبته يحاول الهرب بواسطة المخزن، وهو المكان الذي يجتمع فيه المهاجرون بصورة غير شرعية قبل ملاقاة مصيرهم، وكان هو أدرى حالًا بالمخزن وغدر البحر الذي أحبه منذ طفولته، لكنه عانى من خيانته عندما كبر حتى تحوّل من ملاذ إلى خصم.

 يقول حامد: "في زمان آخر كان البحر صديقي، ينتظرني في نهاية كل شارع من شوارع الطفولة، البحر الذي فتحت مدينتي ذراعيها على اتِّساعهما لتقتطع لنا ولها جزءًا منه لا يشاركنا فيه الجميع، أنظر كيف أصبح ما بيننا الآن. أطلقت المدينة ذراعيها لتبطش بنا من ناحية، فانفلت البحر من الناحية الأخرى ينتقم منَّا ومنها".

يقدِّم كل لقاء جديد لسلمى وجهًا جديدًا من وجوه الحياة، مما يمنحها فرصة لإعادة تعريف العائلة والانتماء والوطن وإيجاد العزاء بصحبة أولئك الذين يشاركونها رحلتها عبر متاهة الخسارة والأمل.

يقول ابن عربي إن الحب موت صغير، ويتردد صدى هذه الاستعارة مع تجارب سلمى التي شعرت في البداية أن الحب وسط ما تعيشه وتشاهده من انكسارات وهزائم رفاهية لا مكان لها، لكنها في النهاية لم تجد من يبقى معها سواه؛ أن تسير مع من تحب ويتشاركان الأحزان والمآسي عملًا بمقولة فؤاد حداد: "حمل الليالي خفيف لما يشيلوه اتنين".

تعكس رحلة شخصيات الرواية الواقع المحزن لعصرنا، حيث نميل إلى البحث عن أصدقاء يشاركوننا ندوبنا وهزائمنا وانكساراتنا بدلًا من أحلامنا. مع ذلك، فالحكاية ليست عن اليأس، كما أنها ليست عن الأمل، بل عن ضرورة التعايش الرقيق معهما.