30-نوفمبر-2015

رضوى عاشور في إسبانيا

"ضبطت الكاميرا وجلست جوارها، التقطت الصورة.. انتهى المنام".

هو العام الأول الذي أحكي فيه عن رضوى وهي غائبة. غياب رضوى لم أستشعره إلا وأنا بين تفاصيل حياتها، أتوحد مع ملاحظاتها وتفاصيلها الصغيرة، وعباراتها البسيطة الآسرة وجملها القصيرة، وانطباعاتها الهادئة. وترتعش يدي وأنا أحاول أن أستنطق نصًا عنها، وكأن الجميل يبقى جميلًا إن تركناه في الذاكرة دون أن نزعجه كل عام في يوم محدد.

علمتني رضوى عاشور من الحكاية أن الأمل منتهى الشجاعة في الواقع المهزوم

لكن الغياب يستنفر شهوة الكلام. وأنا وفية للكلام طالما أن لرضوى نصيب فيه. وقد كنت في سنوات سابقة أجبت عن أسئلة عما غيّرته رضوى في جيلنا، وكل الأسئلة الفلسفية التي طرحتها عن أثرها في نفوسنا. توحدت معها وهي تحكي عن الابن الذي تربيه في غياب أبيه. وأعرف اليوم وأنا أربي ابنتي في ذات الظروف كم هو شاق أن تفعل ذلك وحيدة. وتوحدت معها وأنا أتعامل مع مؤسسات الجامعة البائسة في مصر. توحدت معها وهي تقف كالشوكة في حلق المحسوبيات، وتراجع ما هو أخلاقي وغير أخلاقي. هي من أمدتني بفكرة البحث في داخل البيت والأسرة عن الصور الفريدة التي انعسكت في ضمائرنا وتسللت إلى واجهات نفوسنا دون صخب وجلجلة.

كل تفصيلة في ثلاثية "غرناطة" شممت رائحتها وأنا أقرأ الرواية بعد زيارتي لإسبانيا. مليكة التي تبحث عن الكلمة السر بين الحياة والموت. مريمة التي تحمل رائحة الوطن وذاكرته حتى في قبرها. الطنطورة البعيدة القريبة، وصورة ناجي العلي في المشهد الأخير طفلًا يرسم. الأمل المتواري المحتجب بين السطور. أتراها تمثلت ميغل دي ثريبانتس الذي سخر من أمجاد الفرسان فقرر أن يكتب عن هزائمهم وخيباتهم، فعاشت روايته قرونًا تبعث الأمل وتتمترس خلف غلالات الحكي والسخرية؟

 الأمل أن الأحوال ستتحسن، الأمل أن الدم سيتجدد، الأمل بأن دوري أن أنهي ما بدأته كما رضيت

علمتني رضوى من الحكاية أن الأمل منتهى الشجاعة في الواقع المهزوم. أن تصدير اليأس -على بشريته- مسؤولية لا نستطيع تحمل عواقبها. لكنها كانت صارمة مع اليأس.. ربما صارمة أكثر مني إذا ما قارنتها بمدى توحدي معها في هذه المساحة بالذات تقول في "أثقل من رضوى": "أنا مُدَرسة، أرى في رسائل التشاؤم فعلًا غير أخلاقي. قلت ذات مرة أن رواياتي محاولة للتعامل مع الهزيمة".

في معظم النهايات، حتى التي كان آخرها قبر مريمة كانت النهاية كالهتاف "لا وحشة في قبر مريمة"، وكأنه هتاف لا موت في قبر المحب، أو لا هزيمة حتى في قلب الغياب، أو لا مجد ليأس في الحياة.

رضوى عاشور: أرى في رسائل التشاؤم فعلًا غير أخلاقي. قلت ذات مرة أن رواياتي محاولة للتعامل مع الهزيمة

في الليلة التي رحلت فيها لم يكن يسعني سوى أن ألتقي شريكتي وصديقة عمري في الليلة نفسها، ونحن نتعكز على ذكرياتنا معها. هاجرت رفيقتي الحبيبة بعدها هجرة طويلة وتركتني وحدي. وبقيت هي وحدها هناك. آكل وأشرب وأذهب لمحاضراتي وأربي ابنتي، وأغالب الدمع كلما ذكر اسمها وأغوص مع قصة هنا وجملة هناك، وأخط الخط ثم أعيده، أجمع الرسائل التي أعدت عنها وأقربها رسالة ماجستير كتبتها أختي الصغيرة وبنت مدينتي الباحثة سارة قويسي. أهدتني الرسالة على البحر قبل أن يغضب وأهدت الرسالة لروحها. 

"مع الشيخوخة يتشبث البشر بحياتهم أكثر، وهذا منطقي رغم المفارقة الظاهرة: أليست الشيخوخة في أحد تعريفاتها حياة مهددة بالرحيل؟"، أذكر هذا الاقتباس كل يوم كلما هممت بتمني الموت وأنا أنظر في عيني طريقي وأعرف أنه لم ينته بعد. الأمل أن الأحوال ستتحسن، الأمل أن الدم سيتجدد، الأمل بأن دوري أن أنهي ما بدأته كما رضيت.

"أتساءل: هذه الكتابة المعلقة بين حياتين، أين تأخذني؟ أحدق في الشاشة البيضاء. ببطء تتحرك أصابعي على أزرار الآلة تؤلف بين حكايتي وحكايتها. أتوقف وكأنني على مفترق طريق. أتأمل"، هذا ما تقوله رضوى في روايتها "أطياف".

اقرأ/ي أيضًا:

جهاد هديب.. أو بوحٌ لا يعني أحدًا غيرنا

البكاء في مواجهة الموت