19-ديسمبر-2015

مدرسة بنات في اليمن الجنوبي عام 1970(Getty)

استوقفتني صورة منشورة على "فيسبوك" لطفل من مدينة تعز وهو يقرأ في كتابه المدرسي أثناء جلوسه في طابور طويل للبحث عن الماء في المدينة المحاصرة منذ تسعة أشهر ماضية. الطفل الذي كان يبتسم للكاميرا بعفوية تدل على مباغتة المصور له أثناء استذكاره تتساوق مع صور شبيهة بعفويتها لشباب في المقاومة مرابطين في متاريسهم على الجبهات ويستغلون أوقات الهدوء الشحيحة في القراءة.

المعرفة بما هي وعي، والعلم بما هو إدراك وإتقان، هما أكثر ما نحتاجه لإعادة صياغة حياتنا وحاضرنا 

دلالات الصور قائمة فيما يعني تعز كعاصمة للثقافة كما توصف في اليمن، هي أيضًا مدينة التعليم اﻷولى وتنسب إليها غالبية النخب في مختلف مجالات العلم والعمل.

بيد أن الذي استوقفني في الصورة هي الرسالة القوية واﻷصيلة في المعنى واﻷثر، وظني أنها أقوى الرسائل على الإطلاق. إذ وبرغم كل الدمار الذي خلفته هذه الحرب، ورغم الحصار والجوع ومنع دخول المياه واﻷدوية والقصف الليلي والنهاري وتدمير البيوت والمحال وزوال العقارات واﻷموال وتوقف مختلف معاني الحياة تبقى المعرفة هي العنصر اﻷصيل الذي لا يجب أن يتوقف أو يدمر، وأن كل ما فقدناه بسبب الحرب يبدو أقل وطأة من فقداننا لفضول المعرفة والنهم للعلم.

ما معنى أن يجلس شاب في مقتبل العمر على مشارف الموت في أي لحظة تهل فيها قذيفة أو صاروخ أو رصاصة عليه، ثم لا يجد حاجة أولى بفعلها من القراءة؟ إن مشهدًا كهذا يهز وجدان المرء وهو يدرك أن العلم والمعرفة هما اﻷمل كل اﻷمل في كل وقت وظرف.

بسبب الجهل دفعنا الكثير في هذا البلد، خضنا الحرب تلو اﻷخرى، ونخر فينا الفساد والإخضاع والعبودية، وجنينا الفشل والهزائم عن رضا وطيب خاطر، وتمثلنا العبث والانحطاط عن قناعة وإيمان، لم نكن نعرف -وما زلنا- أننا على هذا النحو السلبي والضحل، ولم ندرك ما لنا وما علينا كي نرفع عن أنفسنا كل هذا البؤس والشقاء.

إن المعرفة بما هي وعي والعلم بما هو إدراك وإتقان أكثر ما نحتاجه لإعادة صياغة حياتنا وحاضرنا ومستقبلنا كشعب وأمة، ومهما كانت التجارب والمعارف التي نتلقاها بالمحاكاة أو بالممارسة تظل سقيمة وقاصرة ومشوهة بدون منهج علمي وتراكم معرفي يبني شخصية الفرد، ويؤسس لنهضة المجتمع. هذا ما يدركه كثير من الناس هنا، أولئك المشغولون بقلقهم من توقف الدراسة في هذه المدينة للعام الثاني على التوالي، واضطر كثير منهم للهجرة إلى مدن أخرى، متى استطاع الخروج، وتحمل العناء سعيًا لتدريس أبنائه بأي وسيلة، كضمان وحيد لعافيتهم وخلاصهم في المستقبل القريب.

ما أصبحت متأكدًا منه، هو شعوري بالإدانة من ذلك الطفل وأولئك الشباب، لقد انغمسنا في الضغوط اﻵنية واﻷزمات الخانقة بحثًا عن الانعتاق، ونسينا أن العلم ومن ورائه المعرفة هما سلم النجاة الطويل الذي ينبغي علينا الصعود عليه بصبر للوصول.

بودي حقًا أن أطلب من كل المانحين، والمساهمين في إعادة الإعمار بعيد هذه الحرب، بودي أن أسألهم وأرجوهم، اجعلوا هذه اﻷموال لبناء المدارس والجامعات والمعاهد المتخصصة والمكتبات، اجعلوها في بناء مشاريع تعليمية عملاقة واحترافية، وخصصوا ما يكفي للبحث العلمي، ابنوا المشافي والمؤسسات الإعلامية والمصانع والمرافق لخريجي الجامعات والمعاهد ليؤدوا وظيفتهم الإنتاجية اﻷخرى، ولا تعوضونا عن أي خسارة أخرى، ولا تقدموا لنا شيئًا سوى أن تمنحوا شعبنا فرصة أن يتعلم ويعمل، وهو المتكفل بالباقي.

اقرأ/ي أيضًا:

البرع.. رقصة الحرب اليمانية

من القات اليمني إلى حبوب الهلوسة العربية