07-فبراير-2016

والد أحد الضحايا يبكي ابنه (رويترز)

عزيزي الله،

أحدّثك من أكثر بقاع الأرض ظلمًا، مكان لا يوجد به رحمة، ولا يعرف الحق له طريقًا.. دولة اختلّت فيها كل موازين العدل واستفحل الطغيان فيها حتى كاد يغطي نور الشمس، شمسُك التي تشرق باكيةً على ما تراه من أهوال في وطني.. أو ما يسمّونه وطني.. أحدّثك من مصر.

كأن إزهاق الأرواح أصبح روتينًا طبيعيًا في هذه المقبرة التي نأسف أن نعيش فيها

أتعلم؟ لقد مرّ عام.. نعم مضت سنة على قتل أكثر من عشرين شخصًا على أبواب استاد الدفاع الجوي. قتلوهم.. اغتالوا أحلامهم وسرقوا آمالهم.. يتّموا من يتّموا، ورمّلوا من رمّلوا، أحرقوا قلوب الآباء وأبكوا الأمهات، وحتى كتابة سطور رسالتي هذه إليك لم ينبس أحد ببنت شفة عن هوية القاتل، ولم يُسأل أي شخص عن أسباب موت هؤلاء، وكأن إزهاق الأرواح أصبح روتينًا طبيعيًا في هذه المقبرة التي نأسف أن نعيش فيها.

لا بد أنك كنت شاهدًا على فرحة هالة التي أصبح وجهها كبدر ليلة التمام، وهي تستعد مع أبيها للذهاب لملاقاة حبيبها الذي طال فراقها له، والطفل يوسف وهو يطلب إجازة من رب العمل حتى لا يتأخر عن اللقاء الذي انتظره طويلًا، والعودة إلى حيث ينتمي، أما الحنين فكان الدافع وراء عودة عم أمين من عتمة ليالي الغربة التي انقشعت بمجرد رؤيته لفجر يوم الثامن من شباط/فبراير قبل أن يحوّل نحيب أولاده وهم عائدون إلى البيت بدون أبيهم كل شيء إلى ظلام دامس.

الأجواء كانت مثالية، اللون الأبيض يغطي المكان والأهازيج تطرب الآذان، كل من دنا واقترب من محيط التجمع الخامس تأكد أن مدرسة الفن والهندسة ستقدم درسًا لا ينسى اليوم بقيادة أوركسترا الوايت نايتس التي ستملأ المدارج الجنوبية عن بكرة أبيها. الأدرينالين وصل إلى ذروته في العروق، والفرحة تقفز من قسمات الوجوه، فالعاشقون على بعد أمتار قليلة من مكان وصلت إليه قلوبهم وعقولهم، قبل أن تصل أجسادهم.

فجأة.. بدأت تلك المدرعات الكئيبة بإصدار نعيقها، ضرب بالعصي انهال كالمطر على الصفوف الأمامية، قنابل الغاز حاصرت المكان، الأرواح تُسحب والأمل يُسلب، الصراخ يتعالى، هالة تبحث عن أبيها وأمين يفتش عن أولاده وسط آلاف من البشر تحوّل حلمهم إلى أسوأ الكوابيس.

سويعات قليلة وخلا المكان من المحبين وامتلأ ببقاياهم.. أحذية وأعلام اختلط لونها الأبيض بدماء أطهر من فينا، لم يتبقَ سوى آثار ممر حديدي أُحكم صنعه ليحصد أكبر قدر من الأرواح، وحفنة من المرتزقة اختاروا اللعب على بعد أمتار قليلة من مكان موت العشق والعاشق.

ومعتوه يعف لساني عن ذكر اسمه، مختل العقل، سليط اللسان، كثير النباح، هدّد وتوعّد، دبّر ونفّذ بمساعدة عاهرته أو بكلمات أخرى وزارة الداخلية.. آلة القتل التي لا تتوقف، مجموعة من القوادين تغافلوا عن دورهم بتأمين من ذهب، وأرادوا الانتقام ممن هتكوا أعراضهم في "ثورة يناير"، لكنهم أساؤوا الاختيار، أسقطوا الأبرياء وتركوا مغتصبيهم الذين سيكرروا فعلتهم مرة أخرى حينما تدق ساعة القصاص.

في مذبحة استاد الدفاع الجوي القاتل وزارة الداخلية، والمدبر واضح رئيس نادي الزمالك الحالي

القاتل معروف للجميع؛ وزارة الداخلية، والمدبر واضح؛ رئيس نادي الزمالك الحالي.. لن تخدعنا دموع التماسيح ولن نتأثر بالرثاء الزائف، تواطؤوا كما شئتم وغيّروا الحقائق، هلّلوا لمن قتل، فنحن ندرك كل الإدراك من كان معنا ومن جار علينا، ولكل منكم وقته حين يأتي وقت الحساب.

أما نحن فسنحسن تكريم من صعدت أرواحهم حاملين معهم آخر بصيص أمل كان يربطنا بهذا البلد الملعون، سنخلّد كلماتهم الأخيرة عامًا تلو الآخر ليشهد العالم أجمع على خستكم ووفائهم، فلم يتبقَ لنا سوى ذكراهم نورًا نهتدي به.

يا الله، حدّثني أبي وأنا صغير وقال لي إنك ذكرت في كتابك: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"، أرجو منك أن تجعلني شاهدًا على عودة الحق لأهله، ومعاقبة كل من تسبب في هذه الجريمة المتكاملة التي تآمرت عليها أجهزة دولة بأكملها، بداية بداخليتها مرورًا بإعلامها وحتى قضائها الذي لم يحاسب سوى من أفلتوا من الموت وكأنه يعاقب كل شاهد على الحقيقة.

سلام على من صعدت روحه إلى السماء، وبقيت ذكراه على الأرض لهيبًا يشعل قلوب كل من مات منه شيئًا في الثامن من شباط/فبراير.

المجد للشهداء.

اقرأ/ي أيضًا:

قلبي مع العسكري الذي لا يلبس الكوندوم

حروب استعادة الدولة المصرية