شيءٌ ما لا أعرف طبيعته، ويتمنع على ذكر صفته، جعلني أَتَلَخْبَطُ رغم اعتيادي على المكان، ورغم أنني شبعت نومًا في الحافلة التي أقلتني طيلة الليل من مدينة بوردو الفرنسية إلى مدريد الإسبانية. وما أعنيه هو أنني لم أشعر بعلامات التعب المعتادة. عيناي لم تَغْزوهُما الحمرة التي تنتج عن الإجهاد وقلة النعاس. كان جسدي مرتاحًا، وكان ذهني رائقًا.

أخذتُ الممشى مباشرة بعد تجاوزي أحد أبواب الخروج الضيقة الموجودة أسفل المحطة الطرقية الجنوبية، والتي تُفْتَحُ فقط من جهة واحدة. ثم ذرعته وأنا أجر حقيبتي خلفي مثلما أجر جسدي، محاذرًا الصدام مع عدد كبير من المسافرين الذين تعج بهم المحطة في كل ركن وزاوية. بعضهم سائر والبعض راكض، والباقي مستلق على الأرض الرخامية ينتظر موعد سفر قادم أو يستريح من تعب سفر سابق. قرأت العلامات الدالة على السبيل المؤدي إلى محطة المترو، في اللوحة أعلى رأسي وأسفل سقف المحطة مباشرة. وشرعت في تسلق المصعد الأوتوماتيكي واثقًا، ونظري يحوم محاولًا تذكر الطريق الصحيحة المؤدية إلى خارج المحطة الطرقية. تجاوزت المصعد الأول، ووجدت نفسي مقابل سطحية المحطة، بجوار طريق يحفه صف سيارات طاكسي. أراها من خلال واجهة زجاجية عريضة تمتد كحاجز شفاف. ما هذا؟ قلت. التفت ورائي أدقق النظر من جديد في العلامات المكتوبة والمرسومة على اللوحات الإرشادية. خاصة تلك التي تشير إلى مكان تواجد الميترو.

إذًا نظرت ورأيت وعرفت.

عرفت أن دماغي لم يكن رائقًا البتة، فحلّ التعب فجأة بالكامل بجسدي. كما لو كان متخفيًا تحت غلاف ما حجبه عن الظهور بفعل آونة فراغ ذاتي عابرة. عكس ما اعتقدت، كان السفر الليلي قد أحدث أثره فعلًا. انتابني ارتعاش خفيف، لكنه مقلق، حين طرقت ذهني فكرة أن ذاكرتي قد تكون بدأت تصاب بالتلف.

بسرعة عدت أدراجي، ونزلت المصعدين، وهناك وقد فتحت عيني جيدًا، بدا لي مكمن الخطأ. علامة الميترو عبارة عن سهم يشير إلى الأسفل، وأنا صعدت، الشيء الذي يدل على أنني فهمتها بالمقلوب. ربما لأنني تعبت من كثرة الهبوط. الهبوط الدائم.

أخذت لحظة راحة. ثم شرعت أخطو فوق الممشى الرخامي الذي يخترق المحطة في اتجاه محطة الميترو. وقفت أمام آلة بيع التذاكر. أدخلت البطاقة الحمراء الخاصة بالنقل العمومي التي اشتريتها عند زيارتي الأولى لمدريد في الفتحة المخصصة لذلك. مستكشفًا مدينة ميتروبولية جديدة. الآلة مخصصة للأداء بالبطاقة البنكية. توجهت نحو آلة ثانية بالقرب من الأولى. آلات ذكية تحاورك باللغة التي تتقنها. اخترت اللغة الفرنسية. أديت الثمن. تجاوزت الحاجز الدائري بوضع البطاقة. ونزلت المحطة عبر درج، ثم مسير بضعة أمتار. وانتظرت وصول قطار الميترو جنب السكة. لكن وأنا ألقي نظرة جهة حقيبتي، تذكرت كيس البلاستيك حيث وضعت قنينة ماء معدني وشاحن الهاتف. لا، لم أتخلص بعد من آفة النسيان، وقد ظننتني عدت إلى صفاء الذاكرة. هأنذا أرتكب خطيئة الإهمال من جديد. ثم تذكرت أنني تركتها بجانب آلة بيع التذاكر، وحتمًا ستثير انتباه رجال الأمن أو حراس المحطة الطرقية، خاصة وأن مكبر الصوت لا ينفك يحذر المسافرين من ترك الأمتعة بدون مراقبة! ماذا لو عثر أحدهم على الكيس؟ لكنه مجرد كيس أسود. وبالرغم صعدت إلى الردهة، وتجاوزت حاجز المراقبة الدوار. وجدت الكيس ما يزال رابضًا في مكانه. أخذته وأسرعت بالعودة إلى الحاجز. وضعت البطاقة الحمراء في الدائرة اللامعة المخصصة التي تسمح بفتح الأعمدة الدوارة. لكن عوض الضوء الأخضر، لمع الضوء الأحمر المانع. أعدت الكرة مرات بدون جدوى. تساءلت للتو: هل هذا جزاء إهمال الذاكرة؟ حرت وخشيت أن أبدو شخصًا مثيرًا للريبة. أسرعت بالانسحاب عائدًا أدراجي. ولأن الحيرة كانت شديدة رجت ما تبقى من العقل، أجبرت نفسي على أخذ مهلة لاستدرار للهدوء، وعلى الاستعانة بالتفكير فيما يحب فعله. كان عليّ أن أؤجل الخروج من المحطة إلى وقت تال. أنسب حل هو غسل الوجه أولًا لمحو آثار الإجهاد.

وهكذا وجدتني أنساق نحو المراحيض. هناك وأمام وجهي الذي ارتسم في المرآة الطولية، لم أتعرفني بالشكل الذي أكون عليه كل صباح. فتحت الحقيبة، وأخرجت لوازم الحلاقة، وشرعت أمرر الموسى على خدي وذقني بهدوء وروية. شرعت بعض الدعة تتسرب إلى ذاتي مع مرور الوقت.

بعد تلك الأثناء، خرج رجل ملتح قليلًا من إحدى المراحيض. رآني أحلق فتبسم، ووجه لي الكلام بإسبانية فهمت منها ما يلي:

- شجاعة منك أن تحلق وجهك كل صباح.

لم تكن في نبرة صوته أية علامة إساءة. بل صارت ابتسامته أوسع وألطف.

- أنا أحتفظ بلحيتي هاته لأسابيع كي لا أنظر إلى وجهي كل صباح. قال ثم حياني بإشارة من يده وانصرف.

تأملتني وتأملت مغزى كلامه. كانت صفحة وجهي تلمع بالكامل. فقررت أن أعود إلى المرحلة الأولى، وصعدت وخرجت هذه المرة نحو الشارع عبر الصعود إلى الأعلى. حيث استقلت حافلة رقم 152.

لا هبوط بعد الصعود هنا. حيث الذاكرة تملي بالرغم منك ما يجب فعله.

 

  • من مجموعة قصصيّة صدرت حديثًا بعنوان "ذات أحد بالقرب من شمال بعيد"، عن منشورات إديسون بلوس دار السلام الجديدة.