أحيط الشاعر رامبو بهالة من السحر في الأدب الغربي، ودائمًا ما نظر إليه كأحدى العبقريات الشعرية النادرة، لكن روب ووديارد، في المقالة المترجمة الآتية عن صحيفة الغارديان، لا يرى ذلك دقيقًا. ووديارد شاعر وروائي ورسام يعيش في كاليفورنيا.


أدرك أنه في بعض الحلقات الأدبية سيعتبر ما أقوله شيئًا يقترب من التجديف، لكن بعد سنوات من البحث الروحي والعديد من إعادة القراءة مؤخرًا، توصلت إلى استنتاج مفاده أن آرثر رامبو، لقيط الأدب الغربي الرهيب، الطفل "العبقري" لأدب القرن التاسع عشر، والذي بدون شك أحد أكثر الشعراء المؤثرين الذين عاشوا على الإطلاق، مُبالَغ في تقديره للغاية.

الميزتان  الرئيستان في شعر رامبو كله هما: العاطفة المشبوبة والعدائية

في الواقع، أود الذهاب أبعد بالقول إن أجيالًا من الأدباء، النقاد، وكاتبي السير الذاتية قد رفعوا من منزلة رامبو ليس استجابة لعمق كتاباته، بل لأنهم أُغووا بسطوحها المبهرجة، بالوعد الذي تظهره، والرومانس الذي لا يمكن جحده لحياة الشاعر وموته.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يرحل المبدعون مبكرًا؟

بالنسبة لمن ليس على دراية بحياة رامبو، فقد ولد في شارلفيل، شمال شرق فرنسا، في عام 1854. بالرغم من أنه كان طالبًا موهوبًا فقد كان مشوشًا كذلك، الأمر الذي أدى إلى هروبه بعيدًا نحو باريس حيث أضحى كما يبدو حبيبًا للشاعر الرمزي بول فرلين. علاقتهما العاصفة، إلى جانب أسلوب حياتهما في تعاطي الحشيش وشراب الأفسنتين، أحدث فضيحة كبيرة في الأوساط الأدبية. الأمور وصلت إلى ذروتها مع سحب فرلين بندقيته وجرح شريكه اليافع. وخلال ذلك الوقت كان رامبو قد كتب معظم أشعاره التي جعلته شيئًا مذكورًا. حياته كشاعر كانت جد قصيرة، ومع ذلك فسرعان ما تخلى عن الكتابة وشرع في التجوال عبر العالم قبل أن يستقر على تجارة الأسلحة والقهوة في أفريقيا، ثم توفي في فرنسا بسبب السرطان وعمره 37 عامًا.              

خلال الوقت القصير الذي قضاه ككاتب أنتج رامبو ثلاثة أعمال رئيسية: مجموعات قصائده النثرية "إشراقات" و"فصل في الجحيم"، وقصيدة طويلة معنونة "المركب السكران" (التي نشرتها دار "الاتجاهات الجديدة" منذ فترة طويلة في نفس المجلد مع المجموعة الأخيرة). ميزتان اثنتان تسمان تقريبًا جميع جوانب هذه الأعمال، ألا وهما العاطفة المشبوبة والعدائية. بالإضافة إلى ذلك، فإن كتابة رامبو غنية أيضًا بالرمزية والمجاز، حتى أن مهارة التطبيق جعلت العديد من الشعراء يتبنون تقنياته. ثمة خاصية أخرى في أعماله وهي الاختيال النشوان القمين بمن هو في سنه الفتي.

"أنا مبتكرٌ أكثر استحقاقًا من جميع من سبقوني، موسيقيّ، كذلك، عثرت على شيء ما يشبه مفتاح الحب".

الاقتباس السالف يأتي من فصل "حيوات" في مجموعته "الإشراقات"، لكن هنالك العشرات من أمثال هذه السطور التي يمكن العثور عليها في تضاعيف شعره، لأن رامبو يطرح نفسه باستمرار كفنان مثاليّ يبصر أبعد من أيّ واحد من البشر ممن يحيط به.

خلف حماسة تلك الصفات، على أية حال، يبدأ شعر رامبو بالتعثر، لأن تحت عاطفته، فطنته التقنية، والثقة بالذات ليس هناك سوى القليل الثمين من التنوير فيما يتعلق بالموقف الإنساني، بل فقط لمحات هامشية بخصوص موضوع محدد. وعلى الرغم من أن عمل رامبو يحكي قصة حياته الفاتنة على العموم، فإنه يفعل ذلك بأسلوب يخلق بورتريهًا للشاعر باعتباره مثالًا أكثر منه كائنًا بشريًا من لحم ودم. وبعبارة أخرى، فإن شعره موجود بقدر ما هو تمرين نظري لاستكشاف العالم الداخلي الحي.

يظلّ رامبو شاعرًا غير مكتمل، تخلّى عن فنه قبل اكتساب الخبرة والعمق

في نهاية المطاف ما يتبقى هو قدر كبير من العواء البارع، مغمور بتهاويل مسرحية وعلامات تعجب، التي تغري شباب رامبو بأنها التي تخلده، وهنا يكمن جوهر المشكلة. إنه بلا شك شاعر موهوب بعمق، ولد شاعرًا، إن كان مثل هذا الأمر ممكنًا. لكنه أيضًا فتى قليل الخبرة، يخطئ باستمرار في توقه للحقيقة، في استيائه من الاضطهاد، وقدرته الخام على الحكمة. قيمته تكمن جوهريًا في كونه قادرًا على تقديم هذه القيود بمثل هذا الأسلوب الرفيع والمُقنِع.                  

لكنه يظلّ شاعرًا غير مكتمل، واحدًا تخلّى عن فنه قبل اكتساب الخبرة والعمق المرافق لها والذي كان سيضعه في مصاف السادة الحقيقيين. إن اضطراب إمكانياته في الشعر الذي كتبه في الواقع تسبب بجعل الكثيرين من معجبيه يضعونه في مرتبة هي أسمى كثيرًا مما يستحق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جاك بريفير: أغنية داخل الدم

بودلير.. روائح أزهار الشرّ