21-نوفمبر-2018

من فيلم الختم السابع لـ أنغمار برغمان

كَتبت الروائيّةُ الأمريكيةُ مارغريت آتوود تقول: "لكنَّ المَوتى يُواصِلون البقاءَ في عُقُول الأَحيَاءِ. فقلّما تُوجد مُجتمعات إنسانية تعتقِد أنّهم يتلاشون تمامًا بمُجرّدِ موتِهم" (مُفاوضات مع المَوتى، ص185).

صدقت مارغريت آتوود عندما قالت أنّ للموتى طرقًا للبقاء في عقول الأحياء، ولعلّ الكتابة الإبداعية هي إحدى تلك الطرق الخالدة، لأنّها تُمثِّلُ الأثرَ الباقيِ والخالد

ذكرتني مقولة آتوود بفقيدة الرواية الجزائرية المُعاصرة الروائية ديهية لويز، التي رحلت عنّا منذ أكثر من عام بعد صراعها مع مرض السرطان. كتبت ديهية باللغة العربية وباللغة الأمازيغية، واستطاعت رغم صغر سنها أن تثير اهتمام النقاد بنصوصها الروائية "جسد يسكنني" و"سأقذف نفسي أمامك"، وهما الروايتان اللتان كتبتهما باللغة العربية.

اقرأ/ي أيضًا: ديهية لويز.. رحيل في مقتبل الشّغف

لقد صدقت آتوود عندما قالت أنّ للموتى طرقًا للبقاء في عقول الأحياء، ولعلّ الكتابة الإبداعية هي إحدى تلك الطرق الخالدة، لأنّها تُمثِّلُ الأثرَ الباقيِ والخالد.

موت ديهية لويز، وقد تعرّفتُ عليها شخصيًا وجمعتنا صداقة قوية على الرغم من قصر عمر هذه الصداقة، دفعني إلى أن أتساءل عن علاقة العبقرية الإبداعية بالموتِ المُبكِّر، لماذا يرحلُ المُبدعون مُبكّرا؟ ولماذا يستعجِلون الرحيل بهذه الطريقة؟

أؤمن بأنّ الموتَ لا يحدث بالصُدفةِ، وإذا استثنينا علاقته بالإرادة الإلهية، أي بقدر الإنسان في هذا الوُجود، فإنّ للموت أسبابه أيضًا، ويزداد الإلحاح لمعرفة تلك الأسباب، إذا تعلّق الأمرُ بالموتِ المُبكِّر للمُبدعين.

إنّ تاريخَ الأدبِ والفنِّ يعجَّان بهذه الحالات التراجيدية، إمّا الموتُ بسبب مرضٍ أو حادثةٍ أو اغتيالٍ أو انتحارٍ. ويُمكِنُ أن نذكُر بعض هذه التجارب، من أهمها: آرثر رامبو ( 1854 -1891) الذي توفي بسبب سرطان العظام. والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث التي انتحرت عام 1963 وهي لم تتجاوز بعد عقدها الثالث. نذكر في أدبنا العربي الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي توفي بسبب مرض السل، و الشاعرة الجزائرية صافية بن كتو التي انتحرت بإلقاء جسدها من فوق أحد جسور العاصمة (جسر تيلملي)، ولن ننسى بختي بن عودة الذي اغتاله الإرهاب وهو لم يتجاوز 35 سنة... إلخ.

يُفسِّر البعض –وهناك دراسة أمريكية بخصوص هذه المسألة- هذه العلاقة بالتركيز على خصوصيات الذات المبدعة، والتي تتميّز بالهشاشة، وبالانفعالية المفرطة، وبالتأثّر الكبير بالواقع وبأزماته ومشكلاته الأمر الذي يجعلها – أي هذه الذات - عرضةً لصدمات أو انهيارات عصبية أو نفسية. ومن المعلوم أنّ ما يصيب النفس من اضطرابات ينعكس مباشرة على الجسدِ أيضا.

يعيش المبدع حالة صراع دائم بالعالم (الأسرة، المجتمع، المؤسسات، منظومات الحقيقة... إلخ). وفي حالات المرض، يتحول الجسد إلى طرف في هذا الصراع، بحيث يغدو عاملًا مُعيقًا لتطوّر موهبة المبدع، وفي اكتمالها أيضًا. قد تكون الإعاقة، في حالات أخرى، مُفجّر للطاقة الإبداعية الكامنة داخل المُبدع.

وفي هذه الحالة، يؤدي الجسدُ دورين متناقضين: أولًا دور العائق أمام الإبداع، وثانيًا دور المحفّز للإبداع. أمّا في حالة الانتحار، فينتقم المبدع من المجتمع بانتهاك قدسية الجسد، حتى يقول إنّ هذا الجسد هو ملك له، ولا يقاسمه أحد فيه، فتتحوّل لحظة الانتحار إلى تجسيد قويّ لمفهوم الحرية الفردية، والامتلاك المُطلق للجسد!

تساءل إدوارد سعيد: كيف تكون ملامِح الكتابة عند مشارِف الموتِ؟ ما هو شكل الكِتابة في حالات المرض؟

اقرأ/ي أيضًا: القارئ الذي لا يقرأ

كتب إدوارد سعيد كتابًا مُهمّا وضع له عنوانًا مُوحيًا "الأسلوب المتأخِّر"، والكِتابُ يتعرّض إلى علاقة الأسلوب/الكِتابة بالجسد، وتحديدًا: رصد تحوّلات أسلوب الكِتابة عبر مراحل تطوّر الجسد المُختلفة، من الشباب إلى الشيخوخة. كيف يغدو أسلوب الكتابة عندما يبلغ الكاتب عُمرًا متقدّمة جدًّا؟ كيف تكون ملامِح الكتابةِ عند مشارِف الموتِ؟ ما هو شكل الكِتابة في حالات المرض؟ إدوارد سعيد نفسه، عاش تجربة مرض السرطان، وكان لذلك المرض تأثيرًا بالغًا في علاقته بالكتابة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

زيف النقّاد

القراءات المُذلّة للكتاب