11-يناير-2016

رسم إسباني لموقعة العقاب (ويكيبديا)

في وسط المعركة الرهيبة، تفجرت الدماء من الأجساد، قُطعت الأطراف والتحمت السيوف والرماح والدروع. لم يهتم الفارس سوى أن تظل راية جيشه خفاقة بيمينه. أحاط به العدو، قطعوا يمينه. حمل الراية بيساره فقطعوها. يائسا عض عليها بأسنانه أسنانه لتمزقه سيوف أعدائه، ورغم أن الفارس وجيشه انهزما، إلا أن العدو احتفظ بدروع حامل الراية تقديرا وعرفانا بشجاعته الفائقة. هل يمكن أن يكون رجلا مضحيا كهذا الرجل على باطل؟ هل يمكن لعقيدته التي منحته هذه القوة أن تكون عقيدة باطلة.

احفظوا اسم هذا الفارس جيدا: إدوارد دي ألميدا حامل راية البرتغاليين في معركة التورو ضد الملكين الإسبانيين فرناندو وإيزابيلا.

*  *  *

السعي البشريٌ يجري عليه ما يجري على حياة البشر من الأسباب التي أجراها الله في الكون، ولم يختص بها المسلمين دون غيرهم.

في قلب الليل وفوق الجبل، اعتصم الملوك الثلاثة مع جنودهم ينتظرون الصباح لبدء المعركة. ثلاثة ملوك فرق بينهم المُلك وأطماعه، ثم جمعتهم أخوة العقيدة، ووحدة العدو الكافر العنيد، فاليوم كل الحدود تراب. تقاطر إليهم الفرسان والمتطوعون من وراء الجبال ومن الأقطار البعيدة طلبًا للشهادة وطمعًا في الجنة. شيوخهم ارتدوا السواد ودعوا للصيام تطوعًا طالبين النصر والتأييد من الله. رغم هذا لم تكن أعدادهم كافية، نظر الملوك الثلاثة لأعداد العدو المهولة عند سفح الجبل، إلى قبة ملك الأعداء الحمراء. رأوا بعين الخيال حرسه الأسود المحيط بقبته وسط السلاسل. شعروا بالرعب، تضرعوا إلى الله بالبكاء والدعاء، وشيوخهم يعظونهم بالصبر والثبات. وفي الصباح ورغم قلة عددهم انهمروا كالسيل من فوق الجبل، مزقوا صفوف عدوهم، ثم ارتدوا تحت وقع فرق الأعداد الرهيب. يائسًا قرر أحد الملوك الثلاثة أن ينزل بالقوات الاحتياطية وأن يتقدم الصفوف بنفسه، كذا فعل الملكان الآخران، ثلاثة ملوك يدفعون بأنفسهم بين فكي الموت، ثم انتصروا. هزموا عدوهم المغرور بجيوشه الجرارة، وفر أمامهم ملك العدو على فرس مع أقرب أعوانه تاركا قبته الحمراء وجيشه لمصيره المحتوم.

ألا يكون جيش هؤلاء الملوك الثلاثة على حق؟ أي دين يجمع بين هؤلاء الملوك؟ يجعل الحدود ترابا ويجعل أبناء الممالك المختلفة أمة واحدة يضحون من أجل هدف واحد؟

ألا يمكن أن يكون ملوك قشتالة وأراجون ونافارا، الملوك الإسبان المنتصرين في معركة العقاب على دولة الموحدين المسلمين، ألا يمكن أن يكونوا على حق؟

*  *  *

تآمر عليهم اليهود، هذه الأمة القوية المؤمنة أشد الإيمان بعقيدتها، تآمر عليهم اليهود وسعوا في خراب مملكتهم. لا عجب في ذلك؛ فاليهود طالما عادوا دين هذه الأمة أشد العداوة وتآمروا على نبيها، كفروا برسالة هذا النبي وزعموا أنه كذاب وأن لا كتاب جاء بعد كتاب موسى. زُعم أن اليهود حرضوا عدو هذه الأمة أن يعبر إليهم البحر في المراكب وأن يغزو أرضهم، وعندما نزل العدو على البر استقبله اليهود استقبال الفاتحين، حاربوا معه ضد هذه الأمة، وشكَّلوا حاميات تساعده في حفظ ما فتحه من مدن وحصون.

هل يتآمر اليهود إلا على أهل الحق؟ هل يتحالف اليهود مع غير أهل الباطل؟

كذا رأى القوط مؤامرة اليهود أعداء المسيح مع المسلمين العابرين إليهم من المغرب لفتح الأندلس! وكان اليهود يعانون الاضطهاد الشديد في عهد القوط فلم يخلصهم منه إلا المسلمون الذين حاربوا معهم.

*  *  *

لابد أن القارئ الآن في حيرة من أمره؛ أيهم يتبع؟ يكون برتغاليًا أم قشتاليًا أم قوطيًا! كلهم يحملون صفات أهل الحق التي طالما علمها لنا القُصَّاص والوُعَّاظ الذين حولوا الدين لمجرد ملحمة حربية طويلة الأمد. التاريخ الإسلامي صار هو الإسلام، ثم صار التاريخ الإسلامي بكل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مجرد سرد قصصي لمجموعة من المعارك يصبح التشكيك فيها أو في أبطالها تشكيكًا في الدين كله. أصبح المسلمون وحدهم هم الشجعان من دون الناس، وطالما انتصروا، فذلك لأنهم على الحق فقط، وغيرهم من الكفار جبناء يهربون أمام المسلمين الذين يحرصون على الموت أكثر من حرصهم على الحياة!

أدى رواج مثل هذا الخطاب إلى ولع طفولي بالقصص على حساب تعلم المبادئ الأساسية التي كان يدرسها أطفال المسلمين في أي كُتَّاب في العالم من مبادئ الفقه واللغة والعقيدة وغيرها مما لا يسع المسلم جهله، يوم كان الدين دينًا قبل أن يتحول إلى فيلم سينمائي وأسطورة شعبية.

المشكلة في هذا الطرح القاصر أنه يغيب الإسلام نفسه كدين مكونه الأساسي هو الإيمان بالتوحيد والنبوة والكتاب والملائكة، إنه بالأساس إيمان بالغيب والقدر، بإله لم نرَه، وبحياة بعد الموت فيها ثواب وعقاب. كل هذا بعيدًا عن أي أحداث أرضية تحدث لمجموعة من المسلمين، سيظل الدين دينًا سواء كان أبناؤه أغنى الناس أو أفقرهم، أشجع الناس أو أجبنهم، مواطني دولة نامية أو دولة عظمى، الدين حق في ذاته عند المؤمن به وركنه الإيمان بالغيب، وهدفه إقامة العدل بمعناه الإلهي وإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان للفوز بالجنة والنجاة من النار.

التاريخ شهد حضارات كثيرة، وزعماء وقادة عسكريين في شتى أركان الأرض، والملاحم كثيرة، فمالذي يجعلك، عزيزي القارئ، مؤمنًا؟

لاشك أن حركة المسلم بهذه التعاليم ستؤدي لنتائج اجتماعية وسياسية واقتصادية، لكن هذا السعي بشريٌ يجري عليه ما يجري على حياة البشر من الأسباب التي أجراها الله في الكون، ولم يختص بها المسلمين دون غيرهم.

والتاريخ شاهد على ذلك؛ فالمسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم انتصروا في بدر وهُزموا في أُحد، فتحوا مكة وامتنعت عليهم الطائف، ثبت صحابة حتى تقطعت أجسادهم، وفر منهم من فر وغفر الله لهم، وكما رزقهم الله شجاعة وبأسًا رزق غيرهم من الأمم مثل ذلك، فلم تجعل الشجاعة الحق باطلًا والباطلَ حقًا؛ فصاحب الحق يكون في الغالب شجاعًا، لكن لا يلزم أن يكون كل شجاع صاحب حق.

وليس رغد العيش كذلك دليل على صحة المنهج من خطئه، فالقرون الثلاثة الأولى التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها خير القرون لم تشهد الحضارة الحقيقية التي نشأت بعد ذلك في التاريخ الإسلامي ومنهم من كان يعيش في ضيق من العيش مقارنة بمن جاء من بعدهم، وصدر الإسلام كان للبداوة أقرب.

إن أكبر جرم يرتكبه القُصَّاص والوُعَّاظ في زماننا أن يجاروا لهجة المستشرقين الذين بادوا منذ عقود ليتحدثوا عن الإسلام باعتباره حضارة أرضية عظيمة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره مصلحًا أو زعيمًا سياسيًا ناجحًا، فالتاريخ شهد حضارات كثيرة، وزعماء وقادة عسكريين في شتى أركان الأرض، والملاحم كثيرة، فمالذي يجعلك، عزيزي القارئ، مؤمنًا؟

*  *  *

"في موطنهم الأول كانوا في صحراء، بعيدين عن الناس، لاحول لهم ولاقوة، مساكين، عراة، فقراء. من دون قصد، جاء بعض منهم تجارا إلى ولاية خوارزمشاه وبدؤوا بالشراء والبيع، وكانوا بشترون الكرباس (ثوب من القطن الأبيض) ليغطوا أجسادهم. وقد منعهم الخوارزمشاه، وأمر بأن يُقتل تجارهم، وأن يُؤخذ منهم الخراج أيضا، ولم يأذن للتجار بأن يذهبوا إلى هناك. مضى التتار إلى مليكهم متضرعين، قائلين: "لقد هلكنا". طلب منهم ملكهم أن يمهلوه عشرة أيام، ودخل في كهف عميق؛ وهناك صام عشرة أيام. وأظهر الخضوع والخشوع. فجاء نداء من الحق تعالى: "قبلت ضراعتك وتوسلك. اخرج: أينما ذهبت فستكون منصورًا. وهكذا كان. عندما خرجوا انتصروا بأمر الحق واستولوا على العالم".

جلال الدين الرومي متحدثًا عن جنكيز خان.

*  *  *

المصادر:

1- History of the reign of Ferdinand and Isabella By William H.Prescott vol I p.259

2- دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان، جـ5 عصر الموحدين، صـ311-313

3- الفتوحات العربية في روايات المغلوبين لحسام عيتاني، صـ194-195

4- فيه ما فيه لجلال الدين الرومي، ترجمة عيسى علي العاكوب صـ109 -110

__

اقرأ/ي أيضًا: 

حتى أنت يا أردوغان

لاهوت التحرير والتنمية