12-ديسمبر-2015

من الفيلم

يحبّ المخرج النرويجي-الكردي هشام زمان قصص الحب الجميلة من موطنه الكردستاني، ولكنه يعترف بأنه لم تتح له الفرصة لمشاهدة الكثير منها على شاشة السينما. "أتمنى أن يأتي يوم ما ويحكي أحدهم واحدة منها بنهاية سعيدة"، هكذا تحدّث المخرج إلى "ألترا صوت" على هامش عرض فيلمه "خطاب إلى الملك" في بانوراما السينما الأوروبية التي أقيمت في القاهرة.

 لا تنفك السينما الكردية تطرح إشكاليات الفقد والحرب والهجرة

الأفلام الكردية شحيحة وأغلب الإنتاج السينمائي الكردي في العراق وتركيا وإيران وسوريا، فضلًا عن الشتات الكردي في أوروبا، لا ينفك يطرح إشكاليات الفقد والحرب والهجرة والمسألة الاجتماعية. يرجع زمان السبب في ذلك إلى الصراع المستمر الذي أصاب إقليم كردستان: "سينما تلك المنطقة لا تزال "تحبو" زمنيًا ولديها الكثير للحاق به مستقبلًا. أتقن المخرجون حرفة السينما في العشرين سنة الماضية وبدأوا بالقصص والحكايات التي لا يستطيع روايتها آباؤهم وأجدادهم، ليظهروا للعالم أي مسار مأساوي مرّوا به في تاريخهم. ركّزوا على القضايا التي تصلح لتجارب مشاهدة مؤلمة عاطفية ولكن من المهم أيضًا عدم نسيانها." يعترف المخرج الذي درس بمدرسة السينما النرويجية في ليلهامر وتعتمد أفلامه على تجربته المأساوية الخاصة: "الأفلام الكردية الخفيفة يبدو أنها تقف في طابور طويل في انتظار دورها للظهور، ربما يكون بمقدور أطفالنا إخراج مثل تلك الأفلام في المستقبل".

اضطرت عائلة المخرج إلى ترك مدينة كركوك في كردستان العراق حين كان في العاشرة، تفاديًا منها للصراع المسلح بين الميليشيات الكردية ونظام صدّام حسين، الذي بلغ ذروته الدموية في هجوم النظام العراقي بالغاز السام على حلبجة عام 1988. أصبح زمان لاجئًا في إيران قبل أن ينتقل إلى تركيا، ووصل إلى النرويج في 1992 ليدرس السينما ويحصل على جنسيتها ويظلّ السفر والهجرة محور الاهتمام في جميع أفلامه.

في ثاني أعماله الروائية الطويلة "خطاب إلى الملك"، الحائز على جوائز وتكريمات في كل من النرويج والسويد ودبي وإيطاليا، يعاود زمان مقاربة الشتات الكردي من خلال قصص متشابكة لخمسة من اللاجئين في النرويج الذين وصلوا أوروبا بأحلام ليس بوسعهم تحقيقها بالضرورة. يقوم الخمسة برحلة إلى العاصمة أوسلو، ليواجهوا مصائر مختلفة، لكن الشيء الوحيد الذي يجمعهم هو الرسالة التي يكتبها ميرزا، الرجل ذو الثلاثة وثمانين عامًا والذي ارتبط بعلاقة عاطفية مع المواطنة النرويجية هيلدا، ويريد تسليمها إلى ملك النرويج شخصيًا. هذه الرسالة تحكي شيئًا عن ماضي ميرزا وعائلته وتحكي شيئًا عن معاناة الشعب الكردي في كردستان العراق، وتحكي أشياء عن الفارق الشاسع بين حياة سكان النرويج وحياة الشعب الكردي.

حين يأتي الحديث إلى قصة الفيلم وتجربة المخرج الشخصية، يشير زمان أولًا إلى محمد أكتاش شريكه في كتابة السيناريو، الذي يتشارك معه أيضًا تجربة اللجوء والهجرة ككردي تركي في برلين قبل أن يصبح كاتبًا صحفيًا. ثم يقول إن فكرة الفيلم الأساسية خطرت في ذهنه حينما شاهد مجموعة من اللاجئين الأكراد الأتراك يترجّلون من حافلة كبيرة مرتدين ملابس متشابهة كأنها زيّ موحّد. استقر المشهد بداخله وقرّر تغيير مسار الحافلة من مركز اللجوء إلى العاصمة أوسلو. بعد ذلك التقى أحدهم، وكان أبًا كبيرًا، أراه رسالة الرفض الأخيرة التي تلقاها من السلطات النرويجية طالبة منه مغادرتها نهائيًا، ثم طلب من المخرج كتابة رسالة إلى الملك ليتدخل ويمنع ترحيله أو يجد حلًا آخر غير الترحيل.

توفي أحد أبطال "خطاب إلى الملك" في الواقع، بالطريق نفسها التي يموت فيها في الفيلم

رسالة ميرزا تشير إلى رغبة الكثيرين في العودة إلى أوطانهم خلافًا للنظرية القائلة بأن جميع اللاجئين يفضِّلون البقاء في المنافي الأوروبية. فهناك من يريد العودة إلى وطنه حفاظًا على كرامته وثقافته وهويته وهو ما تركِّز عليه ثيمة الفيلم وما يؤكده المخرج: "الناس الذين فقدوا كلّ شيء حين تركوا بيوتهم، رحلوا بكرامتهم فقط. وهم لا يريدون خسارتها أبدًا". يتذكّر المخرج يوم وصوله إلى النرويج مع عائلته في كانون الأول/ديسمبر 1992 وعمره سبعة عشر عامًا، حيث كانت الثلوج تتساقط على القادمين وابتسامات الناس في المطار جعلته يشعر بأنه في بيته. الآن من يشرع في رحلة إلى أوروبا يواجه الكثير من التحدّيات بالمقارنة مع فترة أوائل التسعينيات مع تنامي ثقافة من عدم الثقة والبغض تجاه المهاجرين "إنهم يرحلون من دراما في وطنهم ليدخلوا في دراما جدية في الغربة، وهذا هو مكمن مأساة المهاجر في القرن الواحد والعشرين".

"كنا نعيش في عالم قاس للغاية كلاجئين طيلة سبع سنوات، وشعرت بأن قدومي للنرويج كان نقطة التحول الكبرى في حياتنا. كانت كل الأمكنة بيضاء مثل الثلج الذي استقبلني، وكأن بابًا ضخمًا فُتح لي ولعائلتي. أحسست بالجمال والدفء والعطف من الناس الذين كانوا يبتسمون لأنه أمكنهم رؤية جراح ماضينا المؤلم. لن أنسى هذا أبدًا".

الفيلم القوي والمميز يدور في أجواء شتوية شاحبة وكئيبة ولا ينتهي نهاية سعيدة وكنوع من الإجابة على ذلك يحكي المخرج حكاية عن الممثل الذي قام بدور ميرزا في الفيلم: "توفي قبل عرض الفيلم بعام كامل (استغرق التصوير أربعة أعوام) ومن سخرية القدر أن هذا الرجل مات على كرسي أحد الحدائق مثلما حدث بالفيلم، وذلك قبل تحقيق مراده في الانتقال إلى منزل جديد توفّره له الدولة النرويجية".

وفي النهاية يدعو المخرج إلى التفكير بطريقة كونية بديلًا عن الانغلاق الإقليمي والمحلي، حاثًّا الأوروبيين على النظر إلى القادمين إلى قارتهم كأناس عاديين وليس كمهاجرين أو لاجئين: "تلك هي تجربة حياتهم. هم لم يختاروا أن يكونوا في هذا الوضع الصعب. اضطرتهم الظروف إلى أن يكونوا لاجئين، ولكن يومًا ما كانت لهم حياة أخرى مختلفة تمامًا. جميعنا نريد حياة أفضل، فلماذا لا يحق ذلك أيضًا للّاجيء من أجل نفسه ومن أجل أبنائه؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

محسن مخلمباف.. الثورة بعيون الدكتاتور وحفيده

أوديسا عراقية.. نشيد الشتات الأخير