05-مارس-2016

ريفي والمشنوق

قليلة هي الروايات التي يرددها نهاد المشنوق أكثر من مرة، فهو يلجأ دائمًا إلى اعتماد أدبيات جديدة في مقاربة أي متحرك أو فكرة، وحدها رواية زجاجتيّ العطر سمعتها منه مرتين، وقد تقصّد خلالهما أن يعتمد الطريقة عينها في السرد، وربما رواها عشرات المرات قبل وبعد أن سمعها الجميع ضمن خطابه الشهير في جلسة الثقة لحكومة نجيب ميقاتي.

 كان على نهاد المشنوق أن يدرك أن الانتقال من الشارع إلى الدولة سيترك ندوبًا عميقة وفراغًا هائلًا

تقول الرواية المنقولة عن حديث صحفي لبشار الأسد، إن الأخير دخل ذات مرة إلى مكتب حافظ الأسد عندما كان صغيرًا، فلاحظ وجود زجاجتيّ عطر على مكتبه، ثم ما لبث أن خرج، ولم يدخله إلا بعد رحيل والده، يقول: وجدت الزجاجتين على حالهما، لم يتغيّر فيهما شيء، أي شيء على الإطلاق. هنا يعلّق المشنوق: "لقد انكسرت الأولى عام 2005 وفاح عبيرها حريةً في لبنان، فيما انكسرت الأخرى مع انطلاق الثورة السورية.

اقرأ/ي أيضًا: يا "مملكة الخير".. كرامتنا خطٌ أحمر

توصيف المشنوق للزجاجتين يشبه إلى حد بعيد حالته وحالة صديقه اللدود أشرف ريفي، فالأول لم يكن زجاجة مغلقة، بل صقرًا يُحسب لحضوره ألف حساب وحساب، يقارع في السياسة والمنطق، والغلبة لا بد أن تكون دومًا إلى يمينه، شكّل رأس حربة، واستطاع أن يصنع مزاجًا عامًا يضج بعباراته وأدبياته وفرادته. أما أشرف، فقد عرفناه هادئًا، يعمل بلا ضجيج، يلاحق عمله كتلميذ مجتهد، لم يخرج يومًا عن النص أو المهنيّة، حتى في تشييع وسام الحسن، كبح جماح غضبه، وقف يُخاطب الجنون بمنطق رجل دولة، لم يحد قيد أنملة عن سراط دونه الهاوية، وربما قلب الجحيم.

زجاجة المشنوق انكسرت لحظة دخوله الحكومة وزيرًا للداخلية، كان عليه أن يدرك، وهو يدرك، أن الانتقال من الشارع إلى الدولة سيترك ندوبًا عميقة وفراغًا هائلًا، لأن الخروج سيترك مساحة شاغرة لا يشغلها سواه، فيما يُحتّم الدخول منطق الانصياع للنص وللبراغماتية اللعينة، ناهيك عن كرة نار سترقد في أحضانك، ستحرقك، وقد فعلت، وستدمر كل إنجازٍ راكمته على مدى مسيرة طويلة.

كان سليمان فرنجية أحذق من المشنوق في رفضه لوزارة الداخلية، هو قالها بشكل صريح: يريدونني وجهًا لوجه مع أهل طرابلس، ومع ملفات ملتهبة ستشعل كل ما يقترب منها. نهاد فكّر بشكل مختلف، ظن لبرهة أن القرار السياسي بربط النزاع، إضافة إلى شخصه وحضوره ومكانته، سيساهم في كسر الجليد وتذليل العقبات وتدوير الزوايا، تمامًا كما لو أنه قدر الكبار، كما هي الحال مع كمال جنبلاط، قال: لدّي من البراغماتية ما يكفي لخوض هذا الغمار، سأثبت للقاصي والداني قدرتي على التكيّف العميق مع منطق الدولة وأدبياتها وتناقضاتها المهولة. لكنه أخطأ الحساب، أخطأ في السياسة وأخطأ في الأمن، لا حاجة هنا لاستعادة الشواهد، يكفي أن نعرّج سريعًا على الرسالة الأولى: صقر في شارع الماما، ثم ما تبعها من تدمير ممنهج للصورة والحضور، وصولًا إلى شريط روميه، الذي أفرح الجميع، وعلى رأسهم أقرب المقربين.

ظنّ أشرف ريفي أن العمل السياسي في لبنان قائم على مدى تفاعل الجمهور مع المواقف والمبادئ

زجاجة أشرف انكسرت أيضًا، لكن ليس مع دخوله الحكومة، بل خروجه النافر منها، لقد تحوّل الرجل إلى شخص بديل، كانت مواقفه أشبه بزلزال مباغت، فيما لسان حالنا يقول: "كيف لهذا الصامت أن يفعل كل هذا". حاول أن يلعب دور نهاد في الشارع، أراد، ولا يزال، أن يشغل مكانه، أن يُردد على مسامع الجمهور ما يريدون من عبارات تروي ظمأهم الأبدي، أحسن ونجح في البداية، لكنه عاد وتعثر، ربما لعب نهاد دورًا محوريًا في سقوطه، باغته باستقالة مزدوجة، وأرسله إلى بيته وحيدًا ليجلس إلى جانب زوجته، بعيدًا عن أي حضن سياسي أو أفق ملموس نحو درب زعامة لا يمكن أن تقوم على مجرد شعبويات عابرة.

اقرأ/ي أيضًا: لبنان الوحيد.. لبنان العنيد

أخطأ أشرف ريفي في خروجه من الحكومة وفي تمرده على سعد الحريري. هو ظن، ربما، أن العمل السياسي في لبنان قائم على مدى تفاعل الجمهور مع المواقف والمبادئ، وأن الصوت المرتفع بوجه الجميع قد يُعبّد درب الزعامة في العاصمة الثانية. لكن هذه الأخطاء قد تكون مفهومة من رجل لا يمتلك خبرة سياسية وازنة لخوض غمار مماثل، فقد شعر فجأة بأن اسمه بات يتردد في غير مكان، وبأن مواقفه أخذت تترك صداها العميق داخل جمهور متصدّع يبحث عن هالة تسد غياب الحريري والمشنوق معًا.

انزلاق أشرف مفهوم إذًا، وهو سيعود إلى نصابه لحظة الانتقال من الرؤوس الحامية إلى العقول الباردة، لكن سقوط المشنوق كان أشد وقعًا، لا سيما وأنه يمتلك وافر الحنكة والحكمة والخبرة، الأمر أشبه بمهة مستحيلة، إذ كيف لوزير الداخلية أن يوازن بين حضوره وطموحه السياسي المشروع، وبين حريق لا يخمد. بالأمس أطل الرجل بصورة لم نعهدها، بدا وكأن صراخه في وجه مارسال غانم أقرب إلى شعور بالعجز والاستسلام، أراد أن يقول دون أن يقول: نادمٌ أنا، أشعر برغبة في اعتلاء المنابر، في رفع السقوف ودغدغة المجد من موقع الند، أرغب في استعادة خطاب الصحوات، وزجاجات العطر، وتلك الجميلة التي التفت طويلًا حول معصمي، أريد أن أعود إلى حيث كنت، لأصنع السياسة في رحمها. لكن مرسال مصرّ على مقارعته: لقد فاتك القطار يا معالي الوزير!

هما زجاجتا عطر فاحتا بالرحيق قبل أن تنكسر، الكسر كان مؤلمًا ومباغتًا على نحو مستفز، لم يعد العبير مفيدًا، لقد كُسر الرجلان على درب الزعامة، أحدهما خرج من زجاجة الدولة إلى عبث الشارع فسقط، وآخر خرج من زجاجة الناس ولن يعود. ويبقى أن الفرق بين زجاجتيّ حافظ وهاتين الزجاجتين، أشبه بالفرق بين ربيع بيروت ودمشق، وبين خريف نهاد وأشرف.

اقرأ/ي أيضًا: 

مافيا النقل في لبنان.. طُرُق ارتزاق ملتوية

لبنان الضعيف.. لبنان القوي