يعتبر الكثيرون، وأنا منهم، أن سقوط الجدار وتفكك الاتحاد بعده كان إعلانًا لموت الموقع، ولربما وقع ذلك قبلًا، بقليل، غير أن الحدثين مجتمعين دشنا مرحلة جديدة في الفكر، يطبعها اللاثبات، التشكك والذاتية. وعلى إثر هذا نسجّل عبورًا لمفاهيم عدة كانت من قبل يسارًا نحو اليمين، والعكسُ كذلك. وهكذا نجد اليمين الأوروبي يترافع ضد ما يسميه الدكتاتورية المعاصرة، والتي لا تصف إلا توجهات المجتمعات الليبرالية الأوروبية: ضدَّ العنصرية، ضدَّ المركزية الثقافية والعرقية، وضد المانوية الجندرية. واليسار بذات الكيف يتمترس خلف الصوابية السياسية تجاه كل هذه القضايا، في ابتزاز أخلاقي لكل من تسول له نفسه خرقها، يمثَّل به اجتماعيًا ويلقى به في هامش الحياة العامة.

من هذا المنطلق يكتب ميشيل أونفري، الفيلسوف الفرنسي المثير للجدل، محاولًا كتابة صياغة جديدة لـ"الدكتاتورية" في متنه الأخير الذي اتكأ على نوع من تركيب التشابهات بين ما يحدث اليوم والتوتاليتارية التي تنبأ بها أورويل في روايته "1984".

في هذا الحوار الذي أجراه معه موقع "La famille chrétienne"، وترجمانه لكم اليوم، يوضح الفيلسوف "المقنّع باليسار" تفاصيل طرحه المائل إلى اليمين، وفي تفاعله مع ما يحدث.


  • ألا تبالغون في قولكم إن فرنسا 2019 أشبه بمجتمع أورويل في روايته 1984؟

لا، مطلقًا.. بل أظن أن الشك في ذلك التشبيه هو دليل على صحته، وأننا في مجتمع رواية "1984". للدكتاتورية ماض طويل. أخذت اسمها من روما القديمة، حيثما كان يطلق على الرجل الذي تملك كلّ السلط بغرض حل مشكلة معينة، كل السلط التي تصير غير ذات قوة بعد انتهاء مهمة حل المشكل الطارئ. وغادرت الفلك الغربي مع الإمبراطور المغولي جنكيز خان في القرنين الثاني والثالث عشر، أو مع تيمورلنك أمير بلاد ما وراء النهر (أوزبكستان حاليًا) في القرن الذي تلاه. لتعود مجددًا مع سافونارولا في القرن الخامس عشر، بعدها كرومويل، كالفين، روبسبير ولجنته للسلامة العامة.

ميشيل أونفري: المتن الروائي "1984" يسمح بتدبر ملامح دكتاتورية ما بعد نازية أو ما بعد ستالينية

عكس ذلك، وغالبًا، عندما نفكر في الدكتاتورية تتبادر إلى أذهاننا الفاشيات السمراء والحمراء، هتلر، لينين، ستالين، ماو، بول بوت. عدم قدرتنا هذه على تمثل الأمر في مدده الطويلة، يجبرنا بالتالي على الفشل في التفكير فيه خارج ماضينا القريب. في حين هتلر وستالين ليسوا بالمعيار الثابت والمطلق لتعريف الدكتاتورية.

  • لماذا اعتمدتم رواية أورويل هذه كقاعدة لصياغة تنظيركم حول الدكتاتورية؟

أطرح أن أورويل كان مفكرًا سياسيًا بنفس وزن مكيافيلي أو دو لابواتي. وأطرح بذات الكيف أن المتن الروائي "1984" يسمح بتدبر ملامح دكتاتورية ما بعد نازية أو ما بعد ستالينية، ومن خلال هذه الملامح والأشكال أبحث وجود الديكتاتورية في عصرنا.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم

هذا، وعندما وجب عليّ تركيب عناصر اشتغالي، اقترحت خطاطة لدكتاتورية من نوع جديد. نوع جديد تفترض تحقيق عددًا من أهدافه المرجوة: تدمير الحرية؛ إفقارُ اللغة؛ تحطيم الحقيقة؛ إلغاء التاريخ؛ إنكار الطبيعة؛ نشر الكراهية؛ تطمح للتجسد كإمبراطورية.

  • كيف يحدث هذا؟

لتدمير الحرية وجب: ضمان مراقبة دائمة للأفراد، إلغاء وحدتهم، إلزامهم الاحتفاء بأحداث (عامة، وطنية، سياسية)، توحيد الرأي، إدانة الجريمة من منطلق فكرٍ معين (بالتالي تجريم فكرٍ معين، معارض).

لإفقار اللغة، وجب: ممارسة لغة جديدة، استخدام خطاب مزدوج، تدمير الكلمات، اقتصار اللغة على الشفوية (الخطابية)، التحدث بلغة وحيدة، إلغاء الكتابات الكلاسيكية.

لتحطيم الحقيقة، وجب: تدريس الأيديولوجيا، توظيف الصحافة، إشاعة أخبار زائفة، إنتاج الحقيقي.

لإلغاء التاريخ، وجب: محو الماضي، اختراع الذاكرة، تدمير الكتب، إرجاع الأدب صناعة.

لإنكار الطبيعة، وجب: تدمير إرادة الحياة، تنظيم الحرمان الجنسي، تعقيم الحياة، التوالد اصطناعيًا.

لنشر الكراهية، وجب: خلق عدو، اختلاق حروب، تسفيه الفكر النقدي، إتمام إنجاز الرجل الأخير (1).

للتجسد كإمبراطورية، وجب: برمجة عقول الأطفال، التحكم في المعارضة، الحكم بالنحبة، استعباد الشعب بأداة التقدم؛ تمويه السلطة. من يقول إذًا أننا لسنا كذلك؟

  • هل نظرية الجندر نتاج لمجتمع شمولي؟

هي نتاج مجتمع يخوض حربًا شاملة على الطبيعة بهدف تشييء كل موجود، إرجاعه اصطناعيًا، منتجًا، أداة منزلية جامدة، بتعبير آخر: إعادته قيمة استهلاكية. هي احتمالية اكتمال نموذج الرأسمالية التامة، التي ينتج فيها كل شيء، بالتالي كل شيء يباع ويشترى. ونظرية الجندر حجر أساس هذا السجن الكوني. عملية تحضير للترانسهيومن (2) الذي هو الهدف النهائي للرأسمالية، بتعبير آخر: لا تهدف إلى إلغاء رأس المال، كما يعتقد بذلك الماركسيون الجدد، لكن بتأكيد وجوده الكامل، النهائي والحتمي.

  • إذا سمحنا بتقنية التكاثر الاصطناعي للزيجات المثلية السحاقية، البنوة البيولوجية ستعوض ببنوة اعتبارية رمزية. بالنسبة إليك، هل هذا سيساهم في تشكيل مجتمع شمولي، شبيه لما وصفه أورويل في 1984؟

هو الانخراط في سيرورة نزع الطبيعية وتصنيع الحقيقي هذه. حيث ننكر الطبيعة، ندمرها ونحتقرها، ندنسها ونستغلها أبشع استغلال، ثم نبدلها بحلول ثقافية. يقولون في الجسد، مثلًا: لا هرمونات، لا غدد صمّاء، لا تستوستيرون، هي فقط اضطرابات هورمونية! أو عندما يتم حقن هرمونات لأشخاص يودون تغيير جنسهم. تلاحظون هذه الكراهية تجاه الطبيعة، هذه الحرب التدميرية عليها، هي تحضير لمشروع الترانسهيومن.

ميشيل أونفري: لنشر الكراهية، وجب: خلق عدو، اختلاق حروب، تسفيه الفكر النقدي

بالمقابل، لم أكن أبًا بيولوجيًا من قبل، لكن بما أنني متزوج بامرأة وأب لابنيها الكبيرين وجدٌ لأبنائهم: لست ضد الأبوة الاعتبارية، بما أنني أعيشها وأمارسها، لكن كل ذلك في فكرة أنه لا يجب حرمان الأبناء من حقهم في مرجع لهوية الجنسية. لقد قاومت كثيرًا التصورات الماوراء الفرويدية في علم النفس التحليلي، إلى جانب الكثير من علماء النفس الذين يعارضون غياب الأب سواء في حالة الأسرة بأبين (اللواط) أو بأمّين (السحاق).

حريق كاتدرائية نوتردام مثل صدمة للكثيرين. لكنه كان، بذات الكيف، مناسبة لإعادة اكتشاف موروث معماري وروحي. هل تعارضون اعتبار إعادة الاكتشاف هذه صفعة على خد المجتمع "العدمي" الحديث والمتخلي عن تلك قيمه الأصيلة؟

أنا أعارض تلك القراءة التي تعيد تدوير التراهات القديمة: على أن ما حصل انتقام سماوي، علامة إلهية، إنذار للكافرين… سمعت كذلك البعض يقول إن يد الله حمت التاج الشوكي للمسيح عن ألسنة النيران، ولم أفهم لماذا هذه اليد نفسها سمحت بوقوع الماس الكهربائي الذي أحدث المأساة!

اقرأ/ي أيضًا: بودريار: المثقف لا مستقبل له

من ناحية أخرى، لقد تحدثت سابقًا عن الانحطاط الذي وسم "مغامرة" كاتدرائية ساغرادا فاميليا ببرشلونا: قرر وبدأ بناؤها في القرن 19، استمرت الأشغال دون طوال القرن العشرين دون أي أمل في الانتهاء، افتتحت وبوركت في القرن 20 من قبل بابا استقال من منصبه، لتكون مسرحًا لعملية إرهابية فاشلة لحسن الحظ. بهذا الكيف تكون وجهًا من أوجه الانحطاط الذي يعرفه التاريخ المسيحي كذلك.

بينما عبر نافذة مكتبي، أشاهدُ ديرَ الرجال الذي شيده غيوم الفاتح قبل ألف عام: في ثلاثين سنة، قام بتشييد ديرين في مدينة واحدة، دون الحديث عن قلعة ومنشآت أخرى.. وكأن الروح القدس لم يعد يستجيب في هذا العصر! لكن حريق نوتردام يدخل في سياق آخر: في انتظار ما سيؤول إليه التحقيق الجنائي، فالأمر يتعلق بحادث لم يعد لله يد عليه أكثرَ من روح العصر.

 

هوامش

(1) الرجل الأخير اصطلاح لفريديرك نيتشه، ورد في متنه الشهير "هكذا تكلم زرادشت"، وهو الكائن المسالم ذو الآمال الصغيرة، الحريص على أمان حياته دون الخوض التلقائي في المغامرة الوجودية، ظانًا أنه اكتشف سرّ السعادة.

(2) الترانسهيومانيزم تيار فكري يدعو لتجاوز الإنسان بمساعدة التكنولوجيا، وتحسين وضعه بالسيطرة التقنية على ماناحي الحياة البشرية، قدراته البدنية، العقلية وانفعالاته الحسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمبرتو إيكو وتجديد روح المثقف

الفلسفة والتاريخ: العروي يتأمَّل نفسه