05-يناير-2016

جنازة حسين آيت أحمد (Getty)

كتبت على جداري في الفيسبوك: "من لم يعتبر من جنازة حسين آيت أحمد، فيعزز إيمانه بعدم التورط في تزكية منظومة الفساد، قد لا يجد فرصة أخرى يعتبر فيها". كان ذلك يوم الفاتح كانون الثاني/يناير الجاري، بعد أن شاهدت طبيعة الوجوه التي حضرت الجنازة، والوجوه التي منعها السكان المحليون من الحضور، وعدد المشيعات والمشيعين، وطريقة تعامل هؤلاء أثناء انتظارهم وصول الجثمان من الجزائر العاصمة، إلى منطقة عين الحمّام شرقًا، وبعد وصوله ثم دفنه، وفحوى الشعارات التي صدحوا بها.

أعطى حسين آيت أحمد درسًا بليغًا في موته، لا يقل بلاغة عن تلك الدروس التي أعطاها في حياته 

الرجل الذي كان ضمن النواة الأولى التي فجرت ثورة التحرير في خمسينيات القرن العشرين، وأثمرت الاستقلال عن فرنسا عام 1962، ثم كان أول معارض يؤسس حزبًا سياسيًا هو "جبهة القوى الاشتراكية"، في زمن كان يمنع ذلك ويجرّم فاعله، باسم الخيانة الوطنية، مما دفع به إلى الفرار بجلده إلى الخارج، من محاكمة عسكرية كانت ستقطع رأسه، مثلما حصل مع ثوريين آخرين، كان على رأسهم العقيد محمد شعباني، ثم رفضه كل محاولات شراء ذمته، وتزكية نظام ظل يعاني الإحساس بعقدة نقص الشرعية، أعطى درسًا بليغًا بموته، لا يقل بلاغة عن تلك الدروس التي أعطاها في حياته التي بدأت في قرية أمازيغية عام 1926.

أبرز هذه الدروس أن الدخول إلى التاريخ، كما يحلم بذلك من حكموا البلاد، أو من هم في مصافهم، من الشخصيات الموالية لهم، من رحل منهم ومن ينتظر، لا يكون بفرض النفس على الشعب، باستغلال إمكانيات الدولة، من إعلام ومدرسة وخزينة ومنظمات، بل بكسب حب الشعب وثقته، وهما الثمرتان اللتان لا تتحققان لأحد، إلا إذا عاش لهذا الشعب، وناضل من أجل قضاياه، ولم يتاجر بها، بأي شكل من أشكال المتاجرة، حتى وإن أدى به ذلك إلى الحرمان من العيش مع شعبه نفسه.

كنت في مدينة عنابة شرقًا، ووقفت على لحظة أكدت لي هذا المعطى: ثلاثة شباب دون العشرين من العمر، خرجوا للاحتفال برأس السنة الميلادية ليلًا، ثم قطعوا احتفالهم قبيل الفجر، حتى يتمكنوا من حضور جنازة الزعيم، على بعد 600 كيلومترًا. لم يكونوا منخرطين في حزبه، أو منتمين إلى أسر مسيسة، أو إلى جيل عايش الرجل عن كثب. لقد كبروا داخل منظومة سياسية وتربوية وإعلامية رسمية، عتّمت على الرجل، كأنه غير موجود تمامًا، وإن ذكرته، فخضوعًا للتاريخ المجمع عليه، إذ لا يمكن أن تنكر، مثلًا، كونه كان ضمن الوفد الجزائري المفاوض، قبل اختطاف طائرته من طرف سلطات الاحتلال.

هذا النوع من الشباب، هم الذين كانوا أغلبية في جنازة آيت أحمد الذي دأبت مخابر السلطة، على أن تسوق اسمه، بصفته عنصريًا وجهويًا، جاؤوا من الجهات الأربع للجزائر، رافعين العلم الوطني، بعيدًا عن كونهم عربًا أو أمازيغ، وهم أنفسهم منعوا رموز النظام الحاكم من حضور الجنازة.

لقد أثبت الجزائريون، من خلال جنازة الفقيد، على اختلاف وجوههم وجهاتهم واتجاهاتهم، أنهم ليسوا بحاجة إلى النظام الحاكم، ليعرفوا الوطني الحقيقي من الخائن، والمناضل الصادق من المتاجر، ومن فقد ريشه ليطير وطنه، ومن أعاق وطنه لتكون له أجنحة خاصة، فهل بقي هناك مجال لتوبة من يريد أن يتوب، ولاعتذار من يرغب في الاعتذار، لشعب دفع مليونًا ونصف المليون من الشهداء، ليعيش حرًّا وكريمًا ومستمتعًا بخيرات وطنه الذي بات أكبر بلد عربي وأفريقي بعد تقسيم السودان المسكين؟ 
 
اقرأ/ي أيضًا:

حسين آيت أحمد.. رحيل آخر الثوار المعارضين

صفحة الجيل التاريخي في الجزائر تطوى