06-أغسطس-2016

المسجد الجامع بدلهي فى الهند

سحب العالم الحديث، نظر الإنسان من السماء إلى الأرض، لقد هبطت الأديان أخيرًا من السماء كما هبط آدم، وأصبح عليها هي أيضًا، أن تفكر في النجاة في هذا العالم الأرضي المشغول بكيفية تحقيق اليوتوبيا، وإذن عليها أن تغير بضاعتها لتبيع اليوتوبيا.

الإسلام، كما الأديان كلها، لم يكن منشغلًا بشكل أصيل بتحقيق أي شيء دنيوي للناس، كان بالأساس دعوة للإيمان بإله واحد هو من أرسل الرسول محمد للناس، ليخرجهم من الضلال إلى النور، وليجازوا على ذلك في حياة ما بعد الموت، وليس تنظيمهم لتحقيق أقصى منفعة اقتصادية يمكن الحصول عليها في الدنيا.

وبالتأكيد لم يجر في خاطر المحاربين المسلمين الأوائل وهم يفتحون الممالك البعيدة أنهم يفعلون ذلك لفرض نظام اقتصادي يحقق أقصى وفرة ممكنة وأقصى توزيع عادل لها بين الناس، وغير الجزية والضرائب التقليدية لم يعرف عن المسلمين تغييرهم للأنظمة الاقتصادية للبلدان التي فتحوها.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تنظر مجامع البحث إلى الإسلام السياسي؟

كان دخول الجماهير للسياسة، على إثر الحداثة والثورات ونشوء القوميات، قد فرض نفسه، بمعنى أنهم قد أصبحوا المعيار الصفري لكل شيء، منبع الشرعية بتعبير آخر، وعلى أي شكل من السلطة، في الدول الحديثة، أن يدعي أنه جاء لتحقيق مصلحتهم العليا، أيًا كانت، كما كان على الخطابات الإيديولوجية المختلفة أن تجيب على سؤال اليوتوبيا ذلك.

والدين بصفته خطابًا كان عليه أن يعيد تشكيل نفسه في شكل إجابة على سؤال دنيوي خالص عن كيفية الاستمتاع الأقصى بالعالم لكل البشر.

لم يجر في خاطر المحاربين المسلمين الأوائل وهم يفتحون الممالك البعيدة أنهم يفعلون ذلك لفرض نظام اقتصادي يحقق أقصى وفرة ممكنة وأقصى توزيع عادل لها بين الناس

كانت اليوتوبيا تعني يوتوبيا الأفراد بتحقيق حرية لكل شخص، أو وفرة لكل شخص، أو تخاطب جماعة بتحقيق مجد قومي معين، كان دخول الجماهير للسياسة يعني أنه إما أن حشدهم بوعد تحقيق سعادة لا نهائية لكل فرد، تبعًا لخطة معينة، القضاء على البرجوازية وتوزيع ثروتها مثلًا، أو أن يتم التعامل معهم مباشرة كحشد، وخلق شخصية اعتبارية لهذه الجموع، لتكون الأمة أو القومية أو الوطنية، التي يمكن أن يضحي الجميع من أجل استعادة مجدها الذهبي.

كان المجد الجمعي، ليكتسب أي أصالة، يجب أن يكون مجدًا يتم استعادته بافتراض حضوره القديم المتواصل، وإذن كان على الأمم الجديدة، المنشقة عن الأمة المسلمة الأكبر، لكي تخلق وهم حضورها القديم، أن تصنع امتدادًا ما في الماضي، وأن يكون هذا الامتداد متجاوزًا لذكريات شبح الأمة الأكبر، وحتى في الحالات التي كان تحققها القومي ابنًا للحظة مجد إسلامي، مثل الدولة التركية، التي كان مجدها القومي متحققًا في ذورة حضور شبح الأمة الأكبر، فقد تمكنت من مراوغة تلك الحقيقة، التحصن بأساطير أكثر قدمًا أو بلحظات حديثة جدًا، تحرير أتاتورك لتركيا من الاحتلال بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كلحظات صانعة لها.

اقرأ/ي أيضًا: "داعش" ليس مشكلة إسلامية - إسلامية

في مقابل هذه اليوتوبيات الاقتصادية أو القومية الملفقة، كان على التيارات التي ستتصدى لإعادة تثبيت محور الإسلام حول الدنيا وتحقيق اليوتوبيا، أن يخترعوا يوتوبياتهم الجديدة. لكن صياغة أي يوتوبيا دنيوية يعنى بالأساس بوجود قيمة جوهرية يتم مدها إلى نهايتها، هكذا يمكن تخيل يوتوبيا قائمة على الحرية، ويوتوبيا أخرى قائمة على الوفرة، ويوتوبيا قومية قائمة على سحق الأقوام الآخرين، لكن كيف يمكن تخيل يوتوبيا دنيوية قائمة على أساس ديني؟

تواجه محاولة بناء يوتوبيا دنيوي دينية، مأزق أساسي كون الدنيا، في الإسلام، هي أرض للصراع والاختبار والمعاناة وهي عقاب إلهي لآدم، ليطيع الله، قبل أن يقرر أخيرًا من يعود إلى الجنة التي طرد منها، ومن يذهب ليلقى في نار تحرقه إلى الأبد، ويكون معيار الدخول للجنة أو الحرق في النار، هو عدم تكرار خطأ الأكل من الشجرة الممنوعة، أي معيار الطاعة بدون تساؤل وبدون تفكير، وإذن كانت فكرة خلق الجنة هنا في الدنيا فكرة علمانية خالصة، تستبطن هذه الدنيا وهذا الإنسان الحالي، ورغم أن كثيرًا من المفكرين الإسلاميين وعوا لهذه الحقيقة البسيطة، وانتقدوا مادية العالم والتمركز حول المنفعة الآنية، إلا أن أفكارًا مثل تلك لم يكن ليمكنها أن تشكل أي أساس لأي عمل سياسي، كون السياسة الحديثة، أي التي لا تسعى لحكم عائلي واضح وتتوسل الأفكار ليصبح التنظيم وقيادته هم ملوك هذه الفكرة، هي حشد الجموع تجاه ما يتم إقناعهم أنه مصلحتهم الاقتصادية المؤكدة.

لكن في مواجهة يوتوبيا المصالح الفردية، وهي يوتوبيا تصلح لحركات سياسية نضالية، كانت يوتوبيا المصالح الجماعية أسهل في استدعائها الديني، بالحنين إلى عصور ذهبي، وإذن الدعوة إلى استعادة الأمجاد القومية، وكانت الخلافة، هي محط أنظار رغبات الاستعادة تلك، وعلى عكس صعوبة استدعاء أي يوتوبيا اقتصادية في التاريخ الإسلامي، سوى مقتطفات مثل كيف فاض الخير في عهد عمر بن عبد العزيز في الدولة الأموية حتى ألقاه للطيور على الجبال، وهي مقتطفات بطبيعة الحال، لم يكن يوازيها عن أي خطة اقتصادية مختلفة انتهجها هؤلاء الحكام بل فقط بالأمانة وبركة الإيمان، على عكس ذلك، كان تاريخ الإمبراطورية الإسلامية مليئًا بالطبع بلحظات الانتصار الكبرى وبعشرات المعارك والفتوحات والقادة العسكريين، وكانت تلك اليوتوبيا الجماعية المنقرضة أسهل في تحريك الناس انطلاقًا من الدين من اليوتوبيات الفردية أو الاقتصادية التي لم يكن الدين يمتلك فيها أي جديد يقدمه للناس، رغم محاولات مفكرين مسلمين عديدين "تعريب الجنان الغربية" والبحث عنها في تاريخ المسلمين.

يمكن تخيل يوتوبيا قائمة على الحرية، ويوتوبيا أخرى قائمة على الوفرة، ويوتوبيا قومية قائمة على سحق الأقوام الآخرين، لكن كيف يمكن تخيل يوتوبيا دنيوية قائمة على أساس ديني؟

وبشكل عام يمكن القول إن الإسلام الحديث، الذي انقطع عن شرعنة الحكم المتغلب، وجد نفسه مضطرًا لصياغة يوتوبيا تأسيسية تبرر وجود حركاته النضالية، الراغبة في استعادة مركزية الدين، وهي استعادة كانت مشروطة بالإجابة عن أسئلة المنفعة العامة للناس، وإذن خلطت أغلب تيارات الإسلام الحديث، بين وعود بيوتوبيا دنيوية، تأتي بالبركة وبالإيمان، أو استعاروا يوتوبيات أخرى، يسارية في الأغلب، ونقبوا في التاريخ الإسلامي عن ما يشبهها، وبين وعود باستعادة مجد ذهبي غابر، المجد نفسه الذي لم يشكل جنة لعموم المسلمين ولا نهاية للتاريخ حينها، إذا استخدمنا بالمعايير الحديثة.

وأخيرًا، لم يقتصر توغل مركزية فكرة المنفعة وشرعيتها، على الحركات الراغبة في السلطة وتصورها عن كيفية تنظيم الجماهير لتحقيق ذلك، بل تعداها ليدخل في أحيان كثيرة، في كيفية التفكير في الدين نفسه، فأصبحت الصلاة عبارة عن رياضة بدنية تساعد على تشكيل جسم صحي، والصيام علاج فعال لآلام المعدة، والحج والطواف رياضة مكثفة، كما أن القرآن نفسه أصبح ينافس في إنتاج المعرفة الدنيوية باحتوائه على نظريات علمية فيزيائية مفيدة للبشرية، بل وبرر الكثير من المفكرين الإسلاميين، بما فيهم الأكثر جذرية، رغبتهم في إقامة دولتهم الإسلامية بأن الحضارة الغربية تنهار، ويجب أن ترثها حضارة أخرى لإنقاذ عموم البشرية.

وبالتأكيد، واجهت محاولة خلق يوتوبيا إسلامية، مقاومة إسلامية داخلية، تدعو لعدم اتخاذ أي معايير دنيوية، وتنفيذ الأمر الإلهي دون نقاش ودون رغبة في أي منجز دنيوي، وكان هذا الانطلاق من تصورات عن تطبيق الدين وتلبية الأمر الإلهي في شكله الصافي تمامًا، لا يمكنه أن ينتج إلا تنظيمات عدمية، لا تعد بالجنة ويستوي لديها أن يعم الرخاء أو أن تنتهي البشرية، وتمارس عنفًا شاملًا على جموع الناس لتعيدهم إلى وضعهم في التصور الإسلامي القديم كرعية، عليها الطاعة للإمام وليس لها أي شيء سوى الثواب في الآخرة.

ولم تختلف هذه التصورات في حداثتها عن ما تنتقده، فهي كانت قد قطعت أيضًا مع الإسلام السني القديم، الذي يحرم الخروج على الحكام ويدعو لطاعتهم ويبرر الملك الوراثي، أي أنهم كانوا مخترقين بسؤال التأسيس مثل الآخرين، ولكنهم يحاولون مراوغته بتأسيس يوتوبيا لإله، أي العالم المثالي الذي أراده الله في نظرهم، ويسعون كحركات لتحقيق هذا العالم دون وعد بأي شيء، سوى أنهم، مثل كل التنظيمات الحديثة، سيكونون ملوك فكرتهم، وستكون تنظيمات هي العائلات الملكية للفكرة، التي لا يمكن وراثتها من خارج هذه التنظيمات.

اقرأ/ي أيضًا:
إسلام السوق.. إلحاد السوق
الكنيسة الغائبة.. أفكار عن الإسلام والسلطة