1 ـ نشر خاص

نُشِر لي أوّل حوارٍ عام 1996، في صفحة "آفاق"، التي كان يُعدّها الأستاذ الطاهر يحياوي ليومية "المساء"، وأول قصيدة في أسبوعية "رسالة الأطلس"، التي كانت تصدر من مدينة باتنة. وكنتُ أقطع المسافة الفاصلة بين الحيِّ الجامعيِّ وقلب مدينة سطيف راجلًا، لأعاين الجريدة في الكشك الوحيد، الذي كان يبيعها.

.

.

تأخر النّشر، فيئست وتركت متابعة الجريدة.

.

.

كان من طقوسي أن أنفصل عن الحرم الجامعي عشيّةً، وأخلوَ بنفسي في الغابة التي تعلوه.

.

.

ذات عشيّة جرت كرشي، بسبب تطرّفي في أكل الكومبير، فقد كنت ألتقط كلّ ما يتركه الطلبة منه فوق الطّاولات. ولم يُمهلني الإسهالُ لأن أعود إلى الحيّ الجامعي، فتدفّقتُ في الغابة، ماسحًا بجريدة مهملة كانت في الجوار.

.

.

بعد لحظات، امتدّت عيني إلى الجريدة المنكوبة، فقرأت عنوان قصيدتي.

.

.

هل أعاف الجريدة، وأفرّط في رؤية أوّل نصّ منشور لي؟ أم أتحمّل رؤيةَ وشمَّ هراري، وألبّي شغفي الشعري الخاص؟ إنّه نصّي الأوّل يا دين اللّفت!

.

.

في اللّيل، زارني صديقي الشّاعر رابح ظريف في غرفتي، حاملًا معه بعض الفاكهة من الرّيسطو.

.

.

ـ بوكبّة.. ما هذه الرّائحة الكريهة في غرفتك؟

 

2 ـ فروسية خاصّة

كانت جامعة سطيف، إذا ما أشرقت الشّمس، في الفترة التي كنت فيها ما بين سنتي 1996 و2002، تزوّد وادي بوسلّام المجاور لها بمئات الطلبة والطّالبات لأغراض مختلفة. وكان الوصول يصعب إلى الوادي في فصل الرّبيع، حيث يصبح الزّرع يانعًا ومحروسًا من طرف أصحابه الرّاكبين أفراسًا.

ذات صبيحة من عام 1998، قصدت الوادي، رفقة "أ" طالبة علم النّفس لنروّح عن نفسينا بعيدًا عن العلم. وما أن أسلمنا جسدينا وحواسنا إلى الشّجرة، حتى صهلت فوقنا فرسُ صاحب الأرض.

ـ هل زرعت هذا القمح لتدوسوه؟

ـ لقد اتخذنا مسارًا لم ندس فيه سنبلة.

ـ كيف سيكون موقفك لو جرّدتك من صديقتك؟

ـ كلانا فارس يركب فرسًا. والفارس الحقيقي لا يُذلّ فارسًا.

ظهر له وجهي من بين شعر الفتاة وسنابل القمح، فعرفني. لقد شاركنا معًا في الأسبوع الثقافي الخاص بولاية سطيف في مدينة مستغانم عام 1996، وقد احتاج أيامها إلى أن أتنازل له عن سريري في الغرفة ليبيت مع خطيبته.

ـ الخير يُجازى بالخير. هيّا معي إلى الإصطبل، وستحظى فيه بالرّاحة والأمان.

 

على مدار ثلاث سنوات، صارت لي غرفة في إصطبل صاحبنا لا يزعجني فيها أحد. ولو قُدّرت الحياة خلالها لأولادي، لأغرقوا جنبات الوادي.

 

3 ـ عشق خاص

قضى صديقي "ك" ثلاث سنوات يعاتبني فيها على كثرة علاقاتي العاطفية، وأعاتبه على انعدامها في حياته!

.

.

ذات ليلة، دعوته إلى أن يرافقني إلى المطعم الجامعي كالعادة لنتعشّى، فاعتذر لي بحجّة أنه لا يستطيع الأكل.

.

.

عدت إلى الغرفة في حي الدوميل، فوجدته عاكفا على كتابة قصيدة غزلية. كانت حارقة وعاشقة وناضحة بالأوجاع.

.

.

ـ أنا أعشق يا عبد الرزاق.

ـ من تعشق؟

.

.

انفجر دمعًا وصمتًا. وانفجرت حيرةً وسؤالًا: "ك" يعشق؟

.

.

بعد إلحاح مني دام يومين، جرّني من يدي إلى قسم السرطان في مستشفى سطيف، وقادني إلى سرير "ن".

.

.

يا ربي، هل تصاب الملائكة بسرطان الحنجرة؟

.

.

نسيت، ونحن عائدان إلى الحي الجامعي، أن أسأله: كيف أحببت فتاة مسرطنة تعلم أنها ستموت بعد أيام؟

.

.

انتفى أثر "ك" في الفضاء الجامعي، فقد أمسى يبيت قابعا عند سرير "ن".

.

.

بعد عشرين عامًا، نسيت كثيرًا من حياتي الجامعية، لكنني لم أنس اللحظة التي دخلت فيها إلى غرفة "ن" في المستشفى، فوجدتها تحدث "ك" رمزًا، لأنهم ثقبوا حجرتها.

.

.

لم أنس صبيحة زرتها مع "ك"، فقيل لنا انها ماتت، وقد أخذتها أسرتها لتدفنها في بجاية.

.

.

لم أنس اللحظة التي تسلم فيها "ك" رسالة "ن" من الممرّضة خديجة.

.

.

بعد 17 عاما، التقيت صديقي "ك" في معرض الكتاب بالجزائر العاصمة. فأدهشه أنني أهملت النظر إلى وجهه، وغرقت في وجه ولده.

.

.

كان يشبه "ن" تمامًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أرجوحة العبث

حطام أجساد