25-نوفمبر-2015

محتجون أتراك أمام السفارة الروسية في أنقرة، في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر (Getty)

تمارس الكثير من الدول الحديثة سياسات شديدة الواقعية للحفاظ على كياناتها وضمان مختلف أنواع مصالحها. وقد تؤدي هذه السياسات، التي تكون قسرية وجبرية في حالات عدة، إلى ظهور ملامح التضاد والتصادم بين العديد من سلوكيات الدولة الواحدة.

الزخم الكبير للنشاط الخارجي الروسي، العسكري والسياسي على حد سواء، يهدأ ويخفت لدوافع اقتصادية أساسها قطاع الطاقة

غني عن القول إن دولة روسيا الاتحادية بدأت تنشط كثيرًا على ساحة السياسة العالمية أو الخارجية في سنوات حكم فلاديمير بوتين، خاصة في السنوات القليلة المنصرمة منها، وإن أبرز ملعَبين لهذا النشاط كانا أوكرانيا أولًا وسوريا ثانيًا.

يمكن في هذا الصدد وَسم النشاط السياسي الخارجي الروسي في حالتي أوكرانيا وسوريا بأنه نشاط إمبريالي توسعي يسعى لإنشاء مواطىء للأقدام الروسية خارج حدودها الوطنية. ومن دون البحث في الدوافع السياسية والاقتصادية لهذا النشاط التوسعي فإنه يؤدي إلى ازدياد عدد ونوع الاحتكاكات مع العالم الخارجي، خاصة الدول الغربية أو ذات العلاقات الجيدة مع الغرب. إلا أن الزخم الكبير للنشاط الخارجي الروسي، العسكري والسياسي على حد سواء، يهدأ ويخفت لدوافع اقتصادية أساسها قطاع الطاقة.

أثناء أزمة التدخل الروسي في شبه جزيرة القرم الأوكرانية تدهورت علاقات روسيا والاتحاد الأوروبي الداعم لأوكرانيا إلى مستويات خطيرة، لكن العلاقات الاستراتيجية والحيوية الهامة جدًا في ما يخص الطاقة الروسية بين الطرفين، شكّلت الأرضية الصلبة لهما للدخول في مفاوضات جدية، أدّت إلى نزع فتيل الأزمة وإفراغ مضموناتها السياسية والفكرية إلى حد ما، أو تجميد الأزمة على أقل تقدير. 

المثال الأحدث عن هذه المفاوضات هي المحادثات التجارية التي ستجري بين روسيا وأوكرانيا في الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل في بروكسل، برعاية الاتحاد الأوروبي، "لتبديد بواعث القلق الروسي" بعد التقارب الكبير بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وفقًا لما صرّحت به مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون التجارية سيسيليا مالمستروم. يذكر أن روسيا كانت قد استأنفت من جهتها ضخ الغاز لأوكرانيا والاتحاد الأوروبي عبر الأراضي الأوكرانية. في حالة الأزمة السورية فإن التضاد بين النشاط التوسعي العسكري الروسي من جهة، ومصالح الدولة الروسية الاقتصادية من جهة أخرى، يبدو أو سيبدو ظاهرًا بشكل أوضح.

إلى متى يمكن للحكومة الروسية أن توافق بين السياسات الخارجية وسياسات الطاقة التي تتبناها؟

يقع النشاط التدخلي السياسي والعسكري الروسي في سوريا في صالح قوتين اثنتين، قوات النظام السوري وحلفائه بصورة أساسية، والقوات الكردية بصورة ثانوية؛ علمًا أن كلًا من الجهتين من ألد أعداء حكومة "حزب العدالة والتنمية" التركية.

حادثة إسقاط مقاتلة سوخوي 24 الروسية على الحدود السورية التركية بطائرات إف 16 أمريكية الصنع من قبل القوات الجوية التركية، ينذر بحدوث أزمة دولية خطيرة يعتقد بعض المتحمسين بتحولها إلى حرب عالمية ثالثة. لكن وبالنظر إلى ردود فعل حكومة روسيا ورئيسها بوتين التي يبدو وكأنها كانت موجهة لمجاراة غضب الأوساط الداخلية الروسية أكثر مما هي موجهة للجهة المتورطة، أي تركيا، يمكن قراءة تأنّي بوتين في تصعيد العلاقات مع تركيا إلى مستويات خطيرة في أعقاب هذه الحادثة الاستثنائية. الردّ الروسي حتى الآن أخذ أضعف أشكاله بدعوة السياح الروس إلى عدم السفر إلى تركيا ودعوة مجلس الطيران الروسي الاتحادي الحكومة الروسية إلى تعليق الرحلات الجوية بين الطرفين، كما يمكن أن يأخذ الردّ شكل استدعاء السفراء وما شابهه من خطوات دبلوماسية روتينية.

لم يقم بوتين مثلًا بفسخ العقد الروسي لبناء المفاعل النووي التركي في منطقة "أك كويو" الواقعة على مسافة ليست ببعيدة عن مكان إسقاط المقاتلة الروسية، ذلك لأن العقد تبلغ قيمته عشرين مليار دولار أمريكي، وتنفذه شركة مقاولة فرعية تابعة لمؤسسة "روساتوم" الحكومية للطاقة النووية. بالطبع، فإن هذا العقد هو مجرد مثال في فضاء العلاقات الاقتصادية والتجارية الكبيرة جدًا بين روسيا وتركيا. 

شركات الإنشاءات التركية هي من قامت ببناء مجمع مدينة سوتشي الأولمبي، وبلغت قيمة مجمل نشاطات هذه الشركات في روسيا خمسين مليار دولار أمريكي، ناهيك عن العلاقات الزراعية والسياحية بين الدولتين. إلا أن قطاع الطاقة يشغل المساحة العظمى من هذه الروابط الاقتصادية، فتركيا التي تستورد الغاز الروسي، الذي يشكل 56% من احتياجاتها السنوية، هي ثاني أكبر مستورد للغاز، بعد ألمانيا التي لعبت الدور الأهم في مباحاث تطبيع الأزمة الأوكرانية آنفة الذكر. بالأرقام، يتوقع أن يصل إجمالي قيمة الروابط الاقتصادية الروسية التركية إلى مائة مليار دولار سنويًا في الأعوام القليلة المقبلة.

في الأزمة السورية، تضع السياسة الخارجية والعسكرية الروسية الدولة الروسية في مكانة العدو لتركيا، أما اقتصاديًا فبيع الغاز وبناء المفاعلات النووية لتركيا تضعها في خانة الدولة الجارة، وحتى الصديقة ربما. يبقى السؤال هنا، إلى متى يمكن للحكومة الروسية أن توافق بين السياسات الخارجية وسياسات الطاقة التي تتبناها؟ وإلى متى يمكن أن ترجّح كفّة العلاقات الاقتصادية على كفّة السياسة الخارجية وتكون عامل تهدئة لأزمات الأخيرة؟

اقرأ/ي أيضًا:

أين العراق من محور روسيا؟

سوريا.. جيش في حماية مكتب الرئيس