13-مايو-2016

تشارلز بوكوفسكي في لوحة لـ غابي ليونارد

عاش تشارلز بوكوفسكي في الشوارع والمقاهي، متسولًا ومتشرّدًا، أكثر ممّا عاش أديبًا وكاتبًا، وإن كانت قد جمعت كتاباته في أكثر من ستين عملًا، إلا أنه عاش أربعة وسبعين عامًا مخمورًا، ينام من فرط سكره، ليصحو على سكر آخر، هكذا دواليك قضى حياته: محاولًا أن يكسر كل القوانين، ويرفض كلّ شيء.

لعل بوكوفسكي، الذي لم تترجم كتبه إلى العربيّة إلا حديثًا –بعد عام 2014- من أكثر الأدباء الأمريكيين تأثيرًا في الشباب

لعل بوكوفسكي، الذي لم تترجم كتبه إلى العربيّة إلا حديثًا –بعد عام 2014- من أكثر الأدباء الأمريكيين تأثيرًا في الشباب، وهذا التأثير له أسبابه الواضحة، إذ إن الشاب في مقتبل عمره يريد أن يكسر كل شيء، محققًا بذلك كل شيء، مثل بوكوفسكي تمامًا، بالإضافة لطبيعة المواضيع التي يطرقها بوكوفسكي باستمرار في أعماله كالخمر والنساء والجنس.. إلخ، وأسبابه الأقل وضوحًا، والتي لها علاقة بطبيعة الأسلوب السردي الذي يستخدمه في أعماله الروائية على وجه الخصوص.

اقرأ/ي أيضًا: قتلتُ لأنني أردتُ أن أحيا

في هذا المقال-والذي آمل أن أتبعه بمقال آخر يوضح جوانب أخرى من شخصية هذا الأديب الأمريكي المشكِل- سأتوقف عند ذكر بعض سمات أدبه وتحليلها، معتمدًا في ذلك على أعماله الستة الصادرة عن "منشورات الجمل"، وقصائده المنشورة في المدونات على الشبكة العنكبوتية. 

أعماله الستة تتوزع ما بين ثلاث روايات، هي: "مكتب البريد"، و"أدب رخيص"، و"نساء". بالإضافة إلى مجموعتين قصصيتين، هما: "أجمل نساء المدينة"، و"جنوب بلا شمال". ومختارات شعريّة، تم اختيارها من عدة دواوين له بعنوان: "الحب كلب من الجحيم". أما فيما يخص مستوى هذه الترجمات، فهو حديث طويل، وحزين، لا تتسع هذه المقالة لذكره. 

السمات الأهم في أعماله: 

أولًا- الحوار:

يقال إن الأديب الحقيقي هو الذي يجيد الحوار، وليس الذي يجيد السرد فقط. إن كان هناك إضافة قد تكون جيدة في هذه المقال، فهي الكشف عن سرّ بوكوفسكي، إنه يجيد كتابة الحوار، إن هذا العامل هو الأهم في أدبه، حوار حقيقي جدا، وقوي، وصادم.

يمكن تصنيف أعمال بوكوفسكي الروائية والشعريّة تحت عنوان "أدب التدوين" 

إن هذا الحوار، الذي يحتل مساحة كبيرة في أعماله الروائية، والقصصية على حد سواء، ولا تسلم منه قصائده الشعريّة أيضًا، يحاول أن يدسّ فيه دائمًا جرعة من الكوميديا، كما فعل في رواية أدب رخيص مثلًا، لكن هذه الكوميديا تواجه عبثيّة تكاد تكون مطلقة عند كاتبها، لتمتزجا معًا لتصبحا كوميديا سوداء. 

ثانيًا- التكرار 

إن سرد بوكوفسكي سرد يقع في منزلق التكرار، الذي يتمظهر أكثر ما يتمظهر في معجمه اللغوي الذي استخدمه في أعماله، ولا أدري إن كان هذا الأمر سببه كتابة بوكوفسكي نفسها، أو من عمل مترجمي أعماله، ولكنه من أكثر المآخذ التي تؤخذ عليه، حتّى من النقاد الغربيين أنفسهم. 

كما يظهر التكرار أيضًا، في طبيعة المواضيع التي تحتل المساحة الأكبر من أعماله، كالنساء والجنس وعمله في مكتب البريد.. إلخ، وهذا التكرار ليس سيئًا –من وجهة نظري- في حد ذاته، وإنما القصص التي ينسجها من هذه المواضيع وحولها، فيكفيك مثلًا أن تعرف قصة فتاة واحدة أو فتاتين من فتيات رواية "نساء"، لتعرف معظم الرواية التي تمتد على أكثر من 500 صفحة. قد تكون هناك وجهة نظر مدافعة عن هذا الأسلوب الذي يتبعه بوكوفسكي، سأوضحها في النقطة التالية. 

ثالثًا- أدب التدوين والسيرة الذاتيّة 

إن أعمال بوكوفسكي الروائية، جميعها (إذا استثنينا رواية "أدب رخيص" بالطبع)، بالإضافة إلى الشعريّة منها، يمكن تصنيفها تحت عنوان "أدب التدوين"، إن بوكوفسكي كان مدونًا بديعًا، لا يكاد يفوته شيء، لا يترك حركة هامشية في إحدى مضاجعاته الكثيرة إلا ويذكرها، ولأن حياته كانت شريطًا طويلًا من اليوم نفسه مكرّرًا، فإن أعماله تتسم بهذا التكرار، هذا فيما يخص النقطة السابقة. 

كان بوكوفسكي مقتنعًا بأن الأدب نتاج الواقع، ولا يمكن فصله عن الحياة اليومية المعاشة، فخرجت أعماله مطابقة لهذه النظرة، لتكون مقسمة على جوانب حياته المختلفة، فإن كانت روايته "مكتب البريد" تتحدث عن عمله في البريد الأمريكي لمدة 14 عامًا، فإن رواية "نساء" يمكن أن تعتبر سيرته الجنسيّة!

الصفات المعروفة عن تشارلز بوكوفسكي كتمرّده المطلق، وسلاسة أسلوبه، جعلته يحظى بالاهتمام والاطلاع

وفي معرض حديثنا عن هذا النوع من الأدب، يجب أن نستثني الأعمال القصصيّة لبوكوفسكي، إذ أن ميّزة أعماله القصصيّة على العكس تمامًا من أعماله الروائية والشعريّة، فهي أعمال فنتازيا بالمجمل، ذات طابع كافكاوي، خيالية متطرفة، كما أنها في الوقت ذاته تلخص معظم أفكاره بطريقة مركزة ومكثفة. 

اقرأ/ي أيضًا: ديفيد فوستر والاس.. مريض بما يكفي من الشك

هذه الصفات بجانب الصفات المعروفة عنه، كتمرّده المطلق، وسلاسة أسلوبه، وسهولة لغته، وأسلوبه البديع في الوصف، شكلت لنا أديبًا يستحق منّا المزيد من الاهتمام والاطلاع. 

أخيرًا 

من هذا المنطلق، يمكن القول: إن شهرة بوكوفسكي، لم تأت من تميّزه الأدبيّ، بقدر ما أتت من طبيعة أعماله، وجرأتها، هذا ما أدعيه، وأراه بعد قراءة موضوعية لأعماله، والمقارنة بينه وبين أدباء أمريكيين وغربيين غيره، مستذكرًا بالطبع الذائقةَ العربيّة في القراءة!

اقرأ/ي أيضًا:

"اختطاف البابا".. الرفض بأمر صنع الله إبراهيم

في حضرة محمود درويش الألمانيّ