12-ديسمبر-2022
شعار مرسيدس على الثلج

تواجه مرسيدس شتاء قاسيًا (Getty)

تماماً كنجمتها بأضلعها الثلاثة الشهيرة، تقف شركة مرسيدس الألمانية اليوم عند مفترق طرقٍ فرضته الأزمات الجيوسياسية، وأهمها الغزو الروسي على أوكرانيا، وربما أيضاً الفشل الدبلوماسي الألماني وتراكم خياراتٍ وعلاقاتٍ تجاريةٍ اتخذتها الإدارات الألمانية السابقة.

يلخّص مفترق الطرق الذي وصلت إليه مرسيدس، على نحوّ أوسع، أزمة الطاقة التي تواجهها ألمانيا

يلخّص مفترق الطرق الذي وصلت إليه مرسيدس، على نحوّ أوسع، أزمة الطاقة التي تواجهها ألمانيا. فمن ناحيةٍ يشكّل الاعتماد الكبير على استيراد الغاز من موسكو ورقةً ثمينةً بيد موسكو لم يتوانَ الروس باستغلالها في خضم الأزمة الأوكرانية، التي تمخّضت عن أزمة طاقةٍ حقيقيةٍ في ألمانيا التي استوردت أكثر من 50% من احتياجاتها من الغاز عام 2022 من موسكو، إذ على برلين الآن مواجهة شتاءٍ قاسٍ من دون موسكو. هذه الحسابات الجديدة وصلت تداعياتها من الناحية الأخرى إلى علاقةٍ أخرى تُعيد الإدارة الألمانية النظر فيها، وهي السوق الصيني الذي يبقى حتى اليوم أضخم أسواق شركة مرسيدس على سبيل المثال، وبفارقٍ كبير عن أقرب منافسيه، إذ باعت مرسيدس ما يقارب 223 ألف سيارة في الصين، في الربع الثالث من هذا العام بنسبةٍ تصل إلى 42% من مبيعات الشركة الكلية في الفترة ذاتها.

ما هي الحلول البديلة للطاقة؟

تحتضن مدينة" راستات" جنوب شرقي ألمانيا أحد مصانع مرسيدس. وربما سيستمتع الزائر للمصنع بالكفاءة العالية هناك، إذ تخرج كل ثلاث دقائق تقريباً سيارة مرسيدس جديدة لا تدري بأي بقعةٍ من الأرض ستكون، فهل ستبقى قريبةً من الوطن في إحدى العواصم الأوروبية، أم أنها ستكون سيارةً أخرى يلتهمها نهم السوق الصيني، أو ربما سينتهي بها الحال على سواحل كاليفورنيا الدافئة. أنتج مصنع راستات 185 ألف سيارة العام الماضي، وهو واحدٌ من مصانع مرسيدس الثمانية التي تنتج مئات الآلاف من السيارات بمختلف الطرازات ومنها طبعاً السيارات الكهربائية.

سيارة مرسيدس الكهربائية

ولكن هذه الأرقام العالية لا تعني أن الشركة ليست بحاجةٍ إلى اتخاذ بعض القرارات الصعبة. فتتأهّب مرسيدس، كغيرها من أركان البيت الاقتصاد الألماني، لسحابةٍ دبلوماسيةٍ داكنة حملها بداية فصل الشتاء. تخفيض صادرات روسيا من الغاز إلى ألمانيا قد فرض على الشركة البحث عن بدائل أخرى لضمان استمرار تصنيع السيارات وتصديرها.

لحسن حظ مرسيدس، ولو قليلا،ً آتى قرار الشركة العام الفائت ثماره باعتماد سياسات إنتاجٍ محايدةٍ للكربون على مستوى الشركة. وبحسب "يورغ بورزر" أحد مدراء الشركة، فقد وقّعت الشركة عقداً لاستخدام الطاقة الخضراء في جميع مصانعها، بتركيزها على مصادر طاقة كالرياح والشمس والطاقة الكهرومائية. 

كما أن البداية الخفيفة لفصل الشتاء قد ساعد الشركة التي نجحت في تخفيض استخدامها للغاز إلى النصف، مع أن يورغ قد أكّد أن الشركة كانت مستعدةً حتى لو واجهت بدايةً أقسى لموسم الشتاء. 

في مصنع راستات نفسه، نجد موقفاً للسيارات كٌسيَ سقفه بالكامل بألواحٍ شمسية، فيما كان جزء من برنامجٍ أطلقته الشركة هذا العام باسم "ألف سقف" يهدف إلى تغطية جميع أسقف مصانع الشركة في ألمانيا وخارجها بألواحٍ شمسية. 

ويُضاف إلى ذلك الخطط التي أعلنت عنها الشركة مؤخّراً لتلبية احتياجاتها من الطاقة ببناء مزرعة رياح بقدرة 100 ميغا واط في مدينة "بابنورغ" شمالي ألمانيا، ويُتوقّع أن تغطّي هذه المزرعة ما نسبته 15% من احتياجات مرسيدس من الكهرباء.

ولكن لا تعكس مرسيدس الصورة الكاملة للقطاع الصناعي في ألمانيا، فشركات صناعة الفولاذ والشركات الصيدلية الكيميائية جميعها آلمتها أزمة الطاقة، فقد قالت شركة BASF الكيميائية مثلاً في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي أنها ستخفّف عملياتها في الأوروبية بصورةٍ دائمة، وبالمجمل تحاول الشركات الألمانية التكيّف مع أزمة الطاقة بطرقٍ مختلفة.

فشل دبلوماسي ألماني وإعادة ترتيب الأوراق

الأهم هو النقلة الدبلوماسية التي تمرّ بها ألمانيا. عُرف عن برلين، وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، سياسةٌ دبلوماسية باسم Wandel durch Handel، التي تعني "التغيير عبر التجارة". وقد شكّلت هذه السياسة لعقود ركناً مركزياً من السياسة الخارجية الألمانية في تعاملها مع أنظمةٍ كنظام بوتين، والفكرة هنا هو أن السبيل إلى إحداث تغييرٍ اجتماعي وسياسي في البلاد الأخرى يتمّ عبر التجارة.

إلا أن المستشار الألماني أولاف شولتز، قد اضطر إلى الخروج على هذه السياسة في تعامله مع الملف الأوكراني، ومن أبرز ذلك تعليقه لاتفاقية أنبوب نوردستريم 2 لتمديد الغاز التي أبرمتها المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ومن قبل ذلك كان غيرهاد شرودر، مستشار ألمانيا في الفترة 1998-2005، الذي انتهى به الحال اليوم كأحد أهم أصدقاء بوتين، حيث يشغل أحد المقاعد الإدارية لنوردستريم 2 وشركة النفط الروسية روزنفت.

بكل الأحوال يرى المحلّلون، ومنهم "كارستين برزسيكي" الذي يشغل منصب كبير الاقتصاديين في الذراع البحثي للمجموعة المصرفية ING، أن الشركات الألمانية قد عابها بطء التكيف مع سلاسل الإمداد وعمليات الإنتاج.  ويرى برزسيكي أن ألمانيا تعيش في عالمٍ على شفير نقلتين كبيرتين، إحداهما هي ملف الطاقة والأخرى هي هبوب رياح التغيير على المشهد العالمي.

امتدت هذه النقلة الدبلوماسية اللافتة في ألمانيا إلى علاقتها مع الصين في ظلّ واقع الحرب الأوكرانية الجديد وما أحدثته أيضاً جائحة كورونا من اضطراباتٍ في موازنات التجارة العالمية. ولكن للصين حسابات مختلفة قد تكون أكثر تعقيداً، فالإحصاءات السابقة تُظهر الصعوبة البالغة لتحلّي ألمانيا عن السوق الصيني، وليس المسألة فقط هي مجرد أرقام المبيعات، بل أيضاً وجود مصانع للشركات الألمانية على الأراضي الصينية.

وعلى الجانب الدبلوماسي فيبدو أن شولز لا يزال يرى في الصين حليفاً اقتصادياً هامّاً لا يريد خسارته، ولا أدلّ على ذلك من زيارته إلى بكين الشهر الفائت مع وفدٍ اقتصاديٍّ رفيع، حيث كان شولتز أول رئيسٍ غربيٍّ يزور الصين منذ بداية جائحة كورونا وبعد أن قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بتوطيد سلطته عقب مؤتمر الحزب الحاكم في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. كما قام شولز برعاية صفقةٍ منحت شركة كوسكو، التي تملكها الدولة الصينية، ملكية نسبتها 25% لثلاثة منافذ في ميناء هامبورغ، أضخم موانئ ألمانيا، وهو ما أثار موجةً من الانتقادات المحلية في ألمانيا.

هذه الانتقادات تتماشى مع ما رآه بعض المحلّلين بأن ألمانيا تعتمد اعتماداً غير محمود على السوق الصيني، والذي تحوّل إلى مشكلةٍ في السنوات الأخيرة. "نوح باركين"، خبيرٌ في العلاقات الأوروبية-الصينية مع مجموعة "روديوم" الأمريكية يقول: "أصبح هناك إدراكٌ بأن ألمانيا تعتمد بصورةٍ مفرطةٍ على الصين، أن أكبر الشركات الألمانية تعتمد اعتماداً مبالغاً فيه على السوق الصيني. كنّا نرى ذلك نقطة قوة قبل 10 سنوات، ولكنه تحوّل اليوم، وبشكلٍ متزايد، إلى نقطة ضعف. "

تعتمد ألمانيا اعتماداً مقلقًا على السوق الصينية

في المقابل، يبدو أن موقف الشركات الألمانية لا يختلف كثيراً عن موقف المستشار الألماني، إذ يحتفي بورزر، أحد مدراء مرسيدس، بـ"علاقتنا المقرّبة مع الصين من ناحية التصنيع وناحية المبيعات، ونحن طبعاً من مناصري التجارة العالمية." تضمّ هذه القرارات التركيز أكثر على السيارات الكهربائية و"التكيّف في إنتاجنا المستقبلي مع ظروف السوق في الصين والولايات المتحدة." مؤكّداً أن "هذه هي القرارات الصحيحة التي ستعود علينا بالنجاح في المستقبل."