كانَت الفاتحة بطوافي حول حجر السحرِ والحكمةِ والحيّلِ مع السمراء نينوى الأشوريةِ، وقد أهدتني برغلًا مدقوقًا باللحمِ ونبيذًا مُعتقًّا من تل شميرام على أطرافِ نهرِ الخابور، وعودَ رمانٍ طريّ، قالت لي: سينفعُ ليكونَ قوسَ ربابةٍ، تكونُ رفيقتَك في ليالي الحزنِ، وصدّقتُ، فحملتُ ربابتي من مجرى نهرٍ شبهِ جافٍ إلى نهرٍ يهدرُ، اسمهُ: الراين، يقولُ عنهُ الآخرون: "أجملُ أنهارِ العالمِ"، حينما أشدُّ وترَ آلتي الوحيدِ قربَ نهري الجاف، وألاحقُ بعينيّ المتعبتينِ طيورَ الظمأ وهي تفورُ من بقايا الشجرِ كقطعٍ ناريةٍ، تصفعُ وجهَ الريحِ! كانَ ذلكَ الطوافُ أواخرَ آذار، أوائلَ إبريلِ الدافئ، يخرجُ تموزُ من المعتقلِ، نافرًا إلى الأخضرِ القليلِ، حيث يتراجعُ الكابيّ في النفوسِ والطبيعةِ، ويتزامنُ البرقُ والرعدُ مع الأرضِ الخصبةِ لإنتاجِ الكمأ/ نهدِ الصحارى/ حصةِ البدو من ثمارِ الله.

ونينوى لم تعشقني، لم أختلِ بها إلّا في السرد، قالت مرّةً: "لو كنتَ مِنا، آه لو كنتَ، لأنجبتُ منكَ طفلًا يشبهُ المعنى"، ثمَّ ضربَت كأسها بكأسي: "خبوخِن"، بعدها فتحنا بالسُكرِ البابَ على الأحلام، ونمنا البدوي وربابتهُ والمدنيةُ وعنبها، وصحونا كلّ منا يحمل من الآخر نصفهُ، حتى أنّنا تشابهنا في السحنةِ وطريقة الصراخِ في البرية.

ولمْ أقلْ شيئًا وقتها، عشتُ طويلًا بعدَ ذلك، طويلًا إلى أنْ رويتُ قصتي لـ محمد العجيل، الـ ماتَ بالسرطان، كانَ يعرفها جيدًا، ويعرفُ الحرائقَ في قلبي، لكنّهُ ماتَ قبلي، وكانَ من قبل وعدني ألّا يموتَ، غير أنّه أستطاعَ أنْ يجعلَ من "التوينة" قريتهُ موقفًا لباص الشعراء من دمشقَ إلى القامشلي وبالعكس.

ولا أدري ما الذي حدثَ فيما بعد، فقد جاءت الحربُ، وأخذتنا، ومعَ أنني مشغولٌ اليوم بهزائمي وخذلاني من أنصافِ العلاقات، وامتلائي بحبّ، يشغلُ مساحةَ عشر سنينٍ من المعرفةِ، إلّا أنني أتوقُ لخبرٍ عنها، لربّما أنجبتْ طفلًا يشبهُ المعنى ويشبهني، لربّما مازالت مثلي تغمضُ عينيها على الكلامِ الخفيفِ والملغّز بيننا. كانت حياتنا أحجيةً مكشوفةً، والآخرون وجدوا متعةً في اكتشافِ المكتشَف!

قالتْ لي امرأةٌ راقيةٌ، تتوسطُ الطريق الواصل حمصَ بالشام؛ تنوسُ بين البداوةِ والريفِ والحضر: أبي كانَ إقطاعيًا، ويملكُ فرسًا أصيلةً، قالَ إنّها هديةٌ من فارسٍ أرضهُ جنوب الرّد، غزواتهُ تصلُ السواحل والحَماد والشاميةَ، ولو شئتَ أيها البدوي سأجمعُ لكَ من شَعرِ ذيولِ نَسلِها ما ينفعُ ليكونَ وترًا؛ ثمَّ أغمضَت عينها، وسلمتني يدَها لأقبلَها؛ كانَ ذلكَ في آذار، أواخر آذار، حيثُ يتحدثُ أهلي عن أعراسِ الجانِ وغزواتهم. لكنّ الحربَ جاءتْ أيضًا، ليسَ على غفلةٍ، فقد كنا نكتبُها تَخيّلًا، وحينَ صارت حقيقةً، عرفنا أنّنا لم نتهيأ لها. يحدثُ أنْ تكتبَ سطرًا هيَ، فأكملُ ما بدأتهُ مستعجلًا خشيةَ مجيء النار، وقلوبنا هشّةٌ أمامَ هذا الصراع.

كمْ أحبّ ضمّ الحرفِ الأول في لهجتها، حَدّثتُ ظلي عنها ذات فراقٍ؛ فبكى. هذه القصيدةُ الفطريةُ في نطقها، علمتني الكتابةَ الجديدةَ، وفتحتْ روحي على اللغةِ الليّنةِ، ممتنٌ لها ولأشجارها التي ترتفعُ في داخلي مثل منارة، وممتنُ لذلك التجاور العظيم بين الجبال والسهوب، بين الأحلام العالية مثل أشجار السافانا وبين الواقع القصيرِ كالشجيراتِ.

العفرينيةُ هيما بعينيها الخضراوين كحبتي زيتونٍ، وبريقهما كنبعينِ زلالينِ، امرأةٌ تتحدّث عن نفرتيتي ومهوى سلسالِها؛ هي سليلةُ تلكَ الحضارات، لَم تُسبَ، ولم تُهدَ لأحدٍ، وقالتْ إنّ أصلَها من سنجار/ شنكالُ الإيزيديةِ؛ فأخذتْ شيئًا من "ملك طاووس" وشيئًا من سحنةِ جيرانِها شَمّر، قالتْ لي: خبأتُ لكَ وعاءً قديمًا من معدنٍ طيبٍ، كنا نحفظُ فيهِ زيت الزيتون، فيزداد اخضرارهُ، ويصبحُ شَهيًا، مَريًّا على المعدةِ؛ ومقدّسًا يشفي من الآلام، هي صديقةٌ من طبيعةِ الطيور، لا تأخذُ إلّا حصتها من الحَبّ والحُبّ، متدّينةٌ، وأكثرُ ما أعرفهُ عنها رغبتها في زيارة لالش النوراني وقبر الشيخ عدي بن مسافر.

كان ذلكَ في آذار والنوروز على الأبواب، وكاوى الحداد يرفعُ مطرقتهُ، بينما محمد زادة؛ يزور مع عواد أضرحةِ الشهداء السوريين، ويُمسكُ روحَ داليا في الكتابةِ لئلّا تقفزَ إلى الراين عاريةً، قال لي: هيما تشغلُ مكانًا قريبًا من مكانهِ هناك، وهي بأهمية معبدٍ، ولها روحٌ تتجددُ كالأسطورة.

وجاءتْ الحربُ، فصرنا نحدّثُ ظلالنا كالمجانين، نشتاقُ تلكَ الدروب الترابيةِ، ونرسمُ الوجوه التي تعرّفناها على الطَميّ، لعلنا نستثمرُ في الماء والوحلِ الذي نخوضُ فيهِ بكلّ بسالةٍ لا لنصلَ إلى الضفاف، إنّما لنعرفَ كمْ نحنُ أشدّاء على البلوى، ونشبهُ حيوانًا يحرّكُ دولابَ الناعورة!

حدثتني فتنةُ الطويلةُ عن الزروع، كانت تنام كذئب وتجفلُ كغزالٍ، ولحظةَ أمسكتُ يدها للمرةِ الأولى، كانَ كما لو أمسكُ روحها، رأيتُ غيمةً في عينها اليسرى، ومجرى نهرٍ جافٍ في اليمنى؛ فآمنتُ أنّها منذورةٌ لأحدٍ سواي، لهُ ظلٌ باهتٌ ليسَ كظلي، لكنّهُ مازالَ يُسرجُ خيلهُ ويطوفُ بتلكَ السهوب، يحملُ سيفه، ويباريه كلب بشراسةِ الذئاب، وعينهُ على صقرٍ في سماء الجنوب. فتنةُ لا تتحدثُ عن الأساطيرِ البدويةِ، لكنها تصنعُ أسطورتها بنفسها، لم تمانعْ حينَ كانَ الزرعُ بقامة طفل، والممشى رطبٌ، بأنْ أشمّ عنقها، حين رفعتْ ملفعها، ولمعتْ "تراجيها" مع لمعةِ البروقِ، عرفتُ آنها كم هي كائنٌ سماوي، أكثر منهُ كائنٌ أرضي، كائنٌ ملتبسٌ أكثر منهُ ترابي، كائنٌ سائلٌ في الوداعةِ أكثر منهُ ناري، وعرفت عقب تلك اللمعة وحركة الريح، كيف يمكن لكمأ البدو أن ينبتَ في الجسد الشهي أيضًا!

هذه الكثافةُ الأنثويةُ اليومَ، تجتمعُ في أنثى واحدة، أنيقة، لمّاحة، ينطلي جسدها على روحِها كالحيلة، مشاغبة، وزعيمة طبيعية، تتبعها رائحةُ الغابةِ وحيواناتها، لبوة، وحنونة، جلفة ومغرية، ولا فكاكَ للبدويّ من تذوقِ هذا السحرِ، وتنزّل الأدراجِ إلى سماءٍ أرضيةٍ صغيرةٍ، ومحاكاةِ العجائبِ!

سيهدأ الكونُ أخيرًا، ستنتهي الحربُ قبلَ أنْ ننتهي، وسنمضي بكلّ جسارةٍ إلى التقليلِ من الخسران، لعلنا بالندمِ الذي احتلنا من رأسنا إلى أخمصِ رغباتنا، نعوّض ما نحسبهُ نهرًا عظيمًا من الأيامِ المفيدةِ وصبَّ في بحرِ الخسارات.

 

  • مفصلٌ صغيرٌ من أجواء كتاب قيد الطباعة بعنوان "كائنٌ أقل"

 

اقرأ/ي أيضًا:

سبيٌّ ذكوريّ

خمسُ مقاطعَ للرّيح