الجزء الأول من ترجمة تحقيق صحيفة الغارديان البريطانية عن التعاون السري بين بريطانيا والقذافي؛ يستعرض الخلفيات الدافعة لهذا التعاون غير المسبوق. أما في هذا الجزء، الثاني والأخير، فمزيدٌ من التفاصيل الخطيرة عن استغراق بريطانيا في تنفيذ المهام القذرة لنظام القذافي، لكسبه حليفًا لها، ثُمّ استغلاله كمبرر لغزو العراق!


في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2002، قدّم الليبييون لجهاز الاستخبارات البريطاني قائمةً تضم 79 ناشطًا من المعارضة الليبية يعيشون في بريطانيا. وقيل إن معظمهم، إن لم يكن كلهم، أعضاء أوأنصار للجماعة الإسلامية المقاتلة.

لتدارك السمعة السيئة لغزو العراق، عملت أمريكا وبريطانيا لتبرير الحرب، على إجبار ليبيا أن تعلن وقف برنامجها لأسلحة الدمار الشامل

والجماعة الإسلامية المقاتلة هي جماعةٌ سرية تشكلت سنة 1995 من قِبل الليبيين الذين حاربوا ضد الاتحاد السوڤييتي في أفغانستان. وكانت الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة مُركّزةً على الإطاحة بالقذافي وإقامة حكومة إسلامية في طرابلس. وقد أعلنت عن وجودها عبر سلسلة من الاشتباكات مع قوات القذافي في شرق البلاد. ولسنواتٍ عديدة، كان لها قائدان عبدالحكيم بلحاج وكان قائدها العسكري، في حين كان رجل آخر يُسمّى سامي الساعدي، هو زعيمها الروحي.

اقرأ/ي أيضًا: بريطانيا والقذافي.. العراب توني بلير وجرائم لندن نيابة عن العقيد (2-1)

ورغم أنّ قيادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة لم تُبارك هجمات تنظيم القاعدة على الغرب أبدًا، مُؤكدة دائمًا تركيزها على سقوط القذافي، إلا أنّ مئات من أعضائها انضموا لتنظيم القاعدة في أفغانستان بعد محاولة فاشلة لاغتيال القذافي في 1996. وبعد 11 أيلول/سبتمبر، صنفتها الحكومة الأمريكية كمنظمة إرهابية، إلا أنها لم تكن محظورة في بريطانيا حتى ذلك الوقت، ففر العديد من أعضائها لبريطانيا وكذلك للصين وإيران، وكان الساعدي وزوجته كريمة وأطفالهم الأربعة من بين الذين استقروا في لندن لفترة وجيزة، قبل الانتقال لطهران.

وفي بريطانيا، كانت الحكومة متسامحةً مع الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وتمكنت من إعادة تشكيل نفسها من جديد، وتجميع الأموال. ولكن منذ أواخر عام 2002، ومع تزايد التقارب بين لندن وطرابلس، تم توقيف الليبيين المقيمين في بريطانيا واستجوابهم في المطارات. وكانت قوات الأمن تشن حملات على منازلهم العائلية في لندن ومانشيستر. 

هناك غارات للشرطة على منازلهم العائلية في لندن ومانشستر. وعن ذلك يقول هشام مطر، الكاتب الليبي المقيم في بريطانيا: "كنت إذا خرجت لتناول الطعام في لندن، أختار مقعدًا يواجه باب المطعم أو قريب منه"، مضيفًا: "لم يشعر أحد منّا بالأمان". علمًا بأن والد هشام مطر كان عضوًا بارزًا في مجموعة منشقة أخرى، وقد اختفى قسريًا من قبل نظام القذافي في 1990.

عبدالحكيم بلحاج يوجه ثوارًا ليبيين مسلحين خلال ثورة 2011 (Getty)
عبدالحكيم بلحاج يوجه ثوارًا ليبيين مسلحين خلال ثورة 2011 (Getty)

وفي أوائل عام 2003، بينما كانت القوات الأمريكية والبريطانية تحتشد على حدود العراق، كان القذافي يخشى من استهداف ليبيا. وطبقًا لما قاله أحد الدبلوماسيين، فإنّ القذافي طلب من رئيس الوزراء الإيطالي، سيلفيو برلسكوني، راجيًا منه التوسط لديهم، قائلاً: "قُلّ لهم أني سأفعل كل ما يريدون".

وفي آذار/مارس، حصل بلير على دعم مجلس العموم البريطاني للحرب ضد العراق، وبعد يومين بدأ الغزو، وبعد ثلاثة أسابيع من ذلك، بدا أن بغداد قد سقطت في يد الولايات المتحدة، وكان يُعتقد آنذاك أن الحرب قد انتهت. وفي الأول من أيار/مايو، وعلى متن حاملة الطائرات "يو إس إس إبراهام لينكولن"، ألقى بوش خطابًا من أمام لافتة كبيرة كتب عليها عبارة: "تمت المهمة".

وتُظهر الأوراق السرية أنه بحلول ذلك الحين، كان مارك ألين يجتمع بانتظام مع كبير ضباط المخابرات المركزية الأمريكية، ستيڤن كابيس، لمناقشة سُبل التأكد من أن القذافي تخلى عن طموحاته لتطوير الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوچية. وخلال محادثاتهما مع موسى كوسا، رئيس جهاز الأمن الخارجي الليبي آنذاك، لم تكن هناك أي تهديدات بفرض عقوبات؛ بل ولم تكن هناك حاجة تُذكر، لأن الرجال الثلاثة (ألين وكابيس وكوسا) كانوا يعرفون أن القذافي كان مرعوبًا من غزو الولايات المتحدة له كما صنعت بالعراق.

ومن خلال الاجتماعات التي تمت في طرابلس، ناقش ضباط جهاز الاستخبارات البريطانية، ليس فقط برنامج أسلحة الدمار الشامل، ولكن أيضًا طرق استهداف الليبيين المعارضين/ المنشقين في جميع أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، استطاعت المخابرات البريطانية التجسس على المكالمات الهاتفية لسامي الساعدي من منزله في طهران.

في اجتماع واحد بين جهاز الأمن الخارجي الليبي، وجهازي الاستخبارات البريطانية "MI6" و"MI5"، مرر البريطانيون ورقة إحاطة أعدها جهاز "MI5،" جاء فيها: (تحية من جهاز الأمن البريطاني. نحن نريد أن نُطلعكم على معلومات قد تكون ذات أهمية". وقد تضمن التقرير تفاصيل عن مكان وتحركات معارضي القذافي في لندن وبرايتون في بريطانيا وبيشاور في باكستان ولوس أنجلوس بالولايات المتحدة. كما سلم جهاز "MI5" تفاصيل عمن أسماهم بـ"المتطرفين الليبيين المقيمين في بريطانيا".

بعد ذلك بدأت المخابرات البريطانية في تتبع قيادات الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة. وطلب جهاز الأمن الخارجي الليبي من البريطانيين المساعدة في القبض على عبد الحكيم بلحاج والذي كان في الصين مع زوجته المغربية فاطمة بوشار، ولكن جهاز "MI6"، أجاب أنه يجب عليهم أولًا أن يُطلعوا السلطات الصينية على الأمر.

ولم يكن ضباط الاستخبارات البريطانيين على درايةٍ بكيفية رؤية بريطانيا لتلك الأنشطة. وقبل اجتماع آخر، سلّم صادق كريما، نائب رئيس جهاز الأمن الخارجي الليبي، مذكرةً داخلية حذر فيها من أن البريطانيين قلقون بشكلٍ خاص، ويطالبون بأن يظل الاجتماع "سريًا"، لأن "الوضع السياسي والقانوني المحلي في بريطانيا معقد"، وفقًا لنص المذكرة.

في الوقت نفسه، بدا جليًا للولايات المتحدة وحلفائها، أن المهمة في العراق عصية على الاكتمال. وفي السابع من آب/أغسطس انفجرت سيارة مفخخة خارج السفارة الأردنية في بغداد، ما أسفر عن مقتل 17 شخصًا وإصابة العشرات. وبعد 12 يومًا، انفجرت قنبلة ضخمة كانت قد وُضعت داخل شاحنة أمام مقر الأمم المتحدة في فندق القناة ببغداد، ما أسفر عن مقتل الممثل الخاص للأمم المتحدة، سيرچيو ڤييرا دي ميللو، و21 آخرين. وبدا ذلك الوقت أن تمردًا كبيرًا في الطريق للتصاعد.

وتبخرت الثقة التي كانت لدى لندن وواشنطن عند بداية الحرب. وأعلن رئيس المجموعة التي وُكِلت بالتفتيش في العراق من أجل إيجاد أسلحة الدمار الشامل المزعومة؛ أنه لا يُوجد أي دليل يُذكر على وجود هذه الأسلحة.

وعندها رأت كلًا من الولايات المتحدة وبريطانيا أنهما إذا نجحتا في نزع سلاح القذافي، وربط ذلك النجاح بالحرب في العراق، فلن يبدو الغزو بالخطأ الفادح الذي كان يبدو عليه. كما سيحصل دول البحر الأبيض المتوسط، وحلفائهم على استراحةٍ من خطر القذافي.

وفي الرابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2003، غادرت السفينة الصينية "بي بي سي الصين" -سفينة شحن مسجلة في ألمانيا- قناة السويس، وأبحرت غربًا باتجاه ليبيا. واعترضت السفن البحرية الإيطالية السفينة، وأرغمتها على الدخول إلى الميناء في تارانتو، حيث وجدت بعد البحث أن خمس حاويات شحن تحمل عبارة "قطع غيار الآلات المستعملة" كانت معبأة بآلاف من مكونات الطرد المركزي المستخدم لتخصيب اليورانيوم في طريقها إلى القذافي.

وقد تم تعقب المكونات من ماليزيا، حيث تم تصنيعها نيابةً عن عبدالقدير خان، وهو عالم نووي باكستاني، كان له الفضل ليس فقط في تصنيع بلاده للقنبلة النووية فحسب، بل أيضًا بتوفير الخبرة والمعدات التي أصبحت بذور البرامج النووية في كلٍ من كوريا الشمالية وإيران. وقد انضمت ليبيا أيضًا كإحدى محطات متجر خان النووي المنتشر.

توجه ألين بدعوة لكوسا لزيارة بريطانيا، وقد كان، واجتمع الاثنان لمدة 90 يومًا في العشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2003. مسودة الاجتماع توضح أن كلًا من الين وكابيس نقلا رسائل للقذافي عبر كوسا، تفيد بأن كلًا من بلير وبوش كانا يعلما أن القذافي يعمل على تطوير برنامجه للأسلحة النووية في الوقت الذي يتظاهر فيه بتفكيكه. 

في المقابل، رد كوسا عليهما بتعهده أن النظام الليبي سيقوم بإلغاء البرنامج تمامًا، مُؤكدًا على أنه في هذه المرحلة "ليس هناك مجال للتهرب أو المراوغة".

وبعد 11 يومًا، توجه فريق تفتيش أمريكي بريطاني قوامه 13 فردًا بقيادة كابيس وألين إلى مطار المعيتيقة الدولي في طرابلس. ووفقًا لتقارير إخبارية لاحقة نُشرت في الولايات المتحدة، فقد اكتشف الفريق أدلة على برنامج للأسلحة الكيميائية التي كانت بدائية وغير مختبرة، في حين كان مشروع الأسلحة النووية في مرحلةٍ متقدمةٍ بشكلٍ مدهش.

وبدأ العمل في تفكيك مصانع أسلحة القذافي وإزالة المخططات وأجهزة ومعدات الطرد المركزي وغيرها من المعدات من البلاد. وأُفيد بأن حوالي 13 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصَّب بنسبة 80% قد تم التخلص منها ونقلها خارج البلاد بمساعدة روسيا. على أن تُستكتمل العملية برمتها في غضون أربعة أشهر فقط.

وكان ذلك انقلابًا لواشنطن والحكومة البريطانية، اللتين عقدتا العزم على تحقيق أقصى استفادة من قيمتها الدعائية. وفي لندن، في نادي المسافرين في بال مال، التقى ألين بروبرت جوزيف، وهو مسؤول كبير في مجال مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل بمجلس الأمن القومي الأمريكي، وذلك لبحث صياغة البيان الذي كان القذافي سيتلوه، معلنًا عن تخليه عن طموحاته في تصنيع أسلحة الدمار الشامل.

وكان الاتفاق أن يتلو القذافي البيان عبر التلفاز الليبي في 19 كانون الأول/ديسمبر، ومن ثم يُصدر كل من بلير وبوش تصريحاتهما الخاصة. ولأنّه متقلّب دائمًا، فقد قرر القذافي في اللحظة الأخيرة أنه لن يقوم بذلك، وبدلًا عنه، تلا وزير خارجيته البيان.

في 2003 أعلن نظام القذافي إلغاء برنامج أسلحة الدمار الشامل، لتبدأ بريطانيا في 2004 حملة اختطاف لمعارضي القذافي في الخارج

في ردودهم، لم يذكر بوش ولا بلير العراق، ولكنهم أشاروا بتلميح إلى الغزو، إذ قال بوش: "لقد أبدينا عزمنا"، بينما قال بلير:"لقد أوضحنا، بالكلمة وبالفعل، الخيارات المتاحة للخصوم المحتملين"، مُضيفًا: "الأحداث الأخيرة والتصميم السياسي جعلت العالم مكانًا أكثر أمنًا". وعبرت بعض الآراء التي كتبها مؤيدي الحرب على العراق أن نزع سلاح القذافي قد أظهر أن الحرب كانت مُبررة!

اقرأ/ي أيضًا: أن تكون اللاجدوى عراقية!

وفي عشية عيد الميلاد، أرسل ألين رسالة إلى كوسا، تم نقلها شخصيًا من قِبل مندوب جهاز الأمن الخارجي الليبي، والذي كان قد وصل لتوه إلى لندن، محملًا بالتمر والبرتقال، وقد تضمن كلمات ثناء مثل: "لقد كان العمل معكم امتيازًا حقيقيًا لنا"، مُضيفًا: "في هذا الوقت المقدس للسلام (يقصد عيد الميلاد) أُدقم لكم إعجابي وكل التهاني".

موسى كوسا في مدريد عام 2010 (أ.ف.ب)
موسى كوسا عام 2010 (أ.ف.ب) 

وفي شباط/فبراير 2004، حاول قائد الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، عبد الحكيم بلحاج، وزوجته فاطمة بوشار، التي بلغ حملها أربعة أشهر ونصف آنذاك، ركوب طائرة تجارية من بكين إلى لندن، حيث كان يأمل في طلب اللجوء. وبدلًا من ذلك، قامت السلطات الصينية بترحيل الزوجين إلى ماليزيا. وعند وصولهما إلى كوالالمبور تم احتجازهما.

ومن بين الأوراق السرية التي تم اكتشافها في مكتب كوسا الخاص، كان فاكس من قِبل جهاز "MI6" بتاريخ الأول من آذار/مارس 2004، أبلغ فيه الليبيين بموقع الزوجين. كما تضمن الأوراق السرية أيضًا رسائل من كوسا إلى السفير الماليزي لدى ليبيا يطلب فيها مساعدته. وكان هناك أيضًا فاكس من سي آي إيه، بتاريخ السادس من أذار/مارس 2004، بشأن "القبض على بلحاج وتسليمه". وقال: "نحن نُخطط للسيطرة على الزوجين في بانكوك ووضعهما على طائراتنا التي ستُقلع في رحلة إلى بلدك".

وفى مساء اليوم التالي، وضعت السلطات الماليزية الزوجين في رحلة جوية إلى لندن عبر بانكوك. وفي بانكوك، تم نقلهما من الطائرة بعد عصب أعينهما، وتم اقتيادهما إلى مركز احتجاز سي آي إيه في مكانٍ ما داخل حيز مطار "دون مويانغ" الدولي.

ويقول عبد الحكيم بلحاج إنه تعرض للضرب وعُلِّق من خطافات، وأُجبر على الاستماع إلى موسيقى صاخبة. وقالت زوجته فاطمة بوشار إنه عندما تم سحبها بعيدًا عن زوجها، كانت تخشى أن يقتلوه. "أخذوني إلى زنزانة، وربطوا معصمي الأيسر بالجدار، كما تم تقييد كاحلي إلى الأرض. كان بإمكاني الجلوس ولكنني لم أتمكن من التحرك"، تقول بوشار. 

ظلت فاطمة بوشار مُقيدة بالسلاسل على الحائط لمدة خمسة أيام، وأُعطيت الماء ولكن لم يُقدم لها طعام. تقول: "كانوا يعرفون أنني حامل. كان ذلك واضحًا". ثم اضطُرت إلى الاستلقاء على نقّالة، وكانت مربوطة بها بشريط لاصق من الرأس إلى القدم. وضعوا غطاء للرأس وغطاء للأذنين عليها. لم تتمكن من التحرك أو السماع أو الرؤية: "تم إغلاق عيني اليسرى عندما تم ذلك؛ وضعوا الشريط. ولكن عيني اليمنى كانت مفتوحة. لقد كان أمرًا مزعجًا جدًا".

وبعد خمسة أيام، نُقل الزوجين إلى طرابلس في رحلة استغرقت 17 ساعة تقريبًا. وعند وصولهما تم نقلهما بشكلٍ منفصل إلى سجن تاجوراء، شرقي المدينة. يقول بلحاج إن كوسا كان في استقباله شخصيًا. وبحسب ما قال، فقد تم ربطه إلى جدار بالسلاسل، وبدأوا فيه الضرب. وعلى الفور تقريبًا، بدأ جهاز "MI5" وجهاز "MI6" بإرسال الأسئلة التي أرادوا من الليبيين أن يسألوه إياها. العديد من الأسئلة تعلقت بحياة المعارضين الليبيين الآخرين في جميع أنحاء العالم. 

هذا وقد وُجدت كافة الأسئلة ضمن الأوراق السرية التي عُثر عليها في طرابلس. كانت أكثر من 1600 سؤال، هذا ما ظهر حتى الآن على الأقل.

وبعد تسعة أيام من وصول الزوجين إلى تاجوراء، أرسل ألين إلى صديقه كوسا الفاكس الذي ربما يعتبر الأكثر تميزًا في السلسلة بأكملها. بدأ بالإعراب عن امتنانه لصديقه لترتيب زيارة توني بلير للقذافي، مُضيفًا أن بلير سوف يسافر مع الصحفيين، ويود مقابلة القذافي في خيمته. "الحقيقة الواضحة هي أن الصحفيين سوف يحبون ذلك"، قال ألين.

ثم هنّأ ألين كوسا بما أسماه "الوصول الآمن" لعبد الحكيم بلحاج، قائلًا: "هذا هو أقل ما يمكن أن نقدمه لك ولليبيا لندعم العلاقات الرائعة التي بنيناها على مدار السنوات الأخيرة".

بعد ستة أيام من هذه الرسالة، زار بلير ليبيا للمرة الأولى. كان ذلك تحديدًا في 25 أذار/مارس 2004. وأعلن بلير من هناك أن ليبيا "وجدت سببًا مُشتركًا معنا في مكافحة التطرف والإرهاب". في الوقت نفسه، أُعلن في لندن أن شركة "شل" الإنجليزية الهولندية العملاقة، وقعت صفقة بقيمة 110 مليون جنيه إسترليني من أجل حقوق التنقيب عن الغاز قُبالة الساحل الليبي.

وبعد يومين من ذلك، كانت هناك عملية تسليم ثانية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وليبيا. وانتقل الزعيم الروحي للجماعة الإسلامية، سامي الساعدي، إلى الصين مع زوجته كريمة والأطفال الأربعة. وقد سافرت العائلة إلى هونغ كونغ بعد أن تواصل الساعدي مع جهاز "MI5" عبر وسيط، يسأل عما إذا كان سيُسمح لهم بالعودة إلى لندن. وكان انطباعه أنه كان من المقرر أن يستجوبه الدبلوماسيون البريطانيون في هونغ كونغ. وبدلًا من ذلك، اعتقلت سلطات الهجرة في هونغ كونغ الأسرة بأكملها.

وتذكر خديجة، الابنةُ الأكبر لسامي الساعدي، التي تبلغ من العمر 12 عامًا، وأخوها الأصغر مصطفى يبلغ 11 عامًا، وأنيس تسعة أعوام، وأروى ست سنوات، كيف كان انفصالهم عن والديهم قبل أن يتم نقلهم جميعًا عبر طائرة تابعة لخطوط الطيران المصرية، التي كان على متنها عدد قليل من الرجال الليبيين.

وتقول خديجة: "بعد فترةٍ من الوقت سُمح لي بالدخول إلى المقصورة التالية ورؤية والدتي"، مُضيفةً: "كانت تبكي. قالت لي إنهم ينقلوننا إلى ليبيا. في البداية، لم أكن أصدق ذلك. ثم أدركت أنه صحيحًا، وكنت خائفة جدًا. اعتقدت أننا سنُقتل جميعًا. ثم قيل لي أن أذهب وأُودّع أبي. كان مُكبل اليدين إلى مقعد في حجرةٍ أخرى، وكان مُعلق في ذراعه محلول طبي. ثم فقدتُ الوعي".

وبعد هبوط الطائرة في طرابلس، شاهدَت خديجة والديها وهم يخرجان مُغطيان الرأس، وأرجلهما مقيدة بالأسلاك، بينما كان مصطفى وأنس معصوبي الأعين، ثم نُقلت الأسرة في موكب من السيارات إلى السجن في مدينة تاجوراء.

ويقول سامي الساعدي أنه تعرض للضرب والتعذيب بالصدماتٍ الكهربائية. وكانت خديجة ابنته على علمٍ بتعذيب والدها، الذي كان يتم إحضاره كل بضعة أيام  ليرى أسرته لبعض الدقائق قبل أن يعود إلى محبسه مرة أخرى، إذ تقول خديجة: "أعتقد أنهم كانوا يقومون بذلك لزيادة الضغط عليه، لذلك قررنا الشُروع في إضراب عن الطعام، لكنهم لم يهتموا بما إذا كنا نأكل أم لا".

قضى سامي الساعدي 6 سنوات في سجون القذافي بعد أن اختطفته المخابرات البريطانية (أ.ف.ب)
قضى سامي الساعدي 6 سنوات في سجون القذافي بعد أن اختطفته المخابرات البريطانية (أ.ف.ب)

وبعد عشرة أسابيع أُطلق سراح الأطفال مع والدتهم، وسُمح لهم الالتحاق بالمدرسة، بينما قضى سامي الساعدي ستة سنوات مثل عبد الحكيم بلحاج في سجن القذافي. وفي وقتٍ لاحق من هذا الصيف، غادر ألين جهاز "MI6" وعُين مستشارًا لشركة "بي بي"، وتم تكريمه في نهاية هذه السنة.

اختطفت بريطانيا قسرًا كلًا من بلحاج وسامي الساعدي وأسرهما، وتعرضوا للتنكيل قبل أن يُسلما لنظام القذافي الذي أمعن في تعذيبهما

وفي عام 2005، حُظرت الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة في بريطانيا، وقبض على ثلاثة من أعضائها بتهمة تزويدهم بالأموال وجوازات السفر المزورة، وحُكم عليهم بالسجن لمدد تتراوح ما بين 22 و 45 شهرًا، في حين تم اعتقال عدد من أنصار هذه الجماعة في بريطانيا بُناءً على المعلومات الواردة من تعذيب الساعدي وبلحاج في ليبيا، وخضعوا لأوامر المراقبة في بريطانيا وظلوا محتجزين بانتظار ترحيلهم إلى ليبيا. في حين حصل بعضهم على حق اللجوء السياسي من نظام القذافي، وظلوا يعيشون بسلام في بريطانيا لسنواتٍ عديدة، ولكن يبدو الآن أن أوامر المراقبة كانت تستخدم كأدوات للدبلوماسية الدولية.

اقرأ/ي أيضًا: التدخل العسكري في ليبيا.. هل بدأ قرع الطبول؟

ووقّعت الحكومة البريطانية على مذكرة تفاهم مع نظام القذافي، يتعهد فيها الليبيون بعدم تعذيب أو إساءة معاملة أي شخص يعود قسرًا إلى ليبيا. واقترحت الحكومة البريطانية في إحدى نقاط هذه المذكرة أنه يمكن بكل جديةٍ، رصد امتثال الليبيين لهذه المذكرة من خلال مؤسسة القذافي، والذي كان يُديرها نجله سيف الإسلام. غير أن سجل ليبيا المروع في مجال حقوق الإنسان -حيث يواجه خصوم القذافي القتل والتعذيب والاحتجاز التعسفي- لم تتمكن الحكومة البريطانية معه من ترحيل المحتجزين، ومع توالي الأحكام قضت المحاكم بأن أي شخص يعود إلى هذه البلد لن تُتاح له فرصة محاكمة عادلة.

وفي نيسان/أبريل عام 2007،  كتب توني بلير خطابًا شخصيًا للقذافي، بدأه قائلًا: "عزيزي معمر، أتمنى أن تكون أنت وأسرتك على ما يُرام. مع الأسف، أود أن أخبركم بأن الحكومة البريطانية لم تنجح في القضية الأخيرة والمتعلقة بالترحيل إلى ليبيا". وأعرب بلير عن شكره للقذافى شخصيًا، وذلك على المساعدة التي قدمها للحكومة البريطانية فى محاولتها لتأمين الترحيل، والتعاون الممتاز بين وكالات المخابرات بالبلدين.

وزاد قلق الجانب البريطاني، ربما بسبب حكم المحكمة، من أن عملياتها المشتركة مع ليبيا يجب ألا تكون مُعلنة، وحذّر جهاز "MI5" من أنه ينبغي اتخاذ خطوات مشتركة لتجنب الوقوع في أي نوع من المشاكل القانونية، وكذلك تجنب أن يتم اكتشاف هذه الخطط المشتركة من قِبل المحامين أو منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام.

في الوقت نفسه، استجوب ضابطان من المخابرات البريطانية كلًا من بلحاج والساعدي في طرابلس، وفي إحدى المرات التي تُرك فيها عبد الحكيم بلحاج وحيدًا مع الضباط البريطانيين، أشار إلى أنه يتم التسجيل لهم سرًا، كاشفًا لهم عن الندوب التي في ذراعه، وأضاف -من خلال لغة الإشارة- أنه يتم ضربه وتعليقه من ذراعيه، وقال إن البريطانين فهموا كلامه بوضوح، حيث أشار أحدهم إليه بإبهامه، في حين حرك الثاني رأسه بالموافقة.

لم تعتقد المخابرات البريطانية أن احتجاز مثل هؤلاء الرجال واستجوابهم سيجعلون من بريطانيا، أو بالأحرى العالم، مكانًا أكثر أمنًا، فمن بين المستندات التي اكُتشفت خلال الثورة، مذكرة لجهاز "MI5" أعدها قبل زيارة طرابلس في شباط/فبراير عام 2005، وكُتب عليها "سري لعملاء بريطانيا وليبيا فقط". وكانت تحتوى على تقييم صريح للموقف، حيث أوضحت أن احتجاز بلحاج والساعدي، أدى إلى قيام الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة بحالةٍ من الفوضى، مُضيفًا أن هؤلاء الرجال "سعوا دائمًا إلى استقلال الجماعة عن الحركة الجهادية في جميع أنحاء العالم، ولكن في غيابهم، أصبحت الجماعة في أيدي آخرين والذين قد يدفعونها إلى الانضمام للقاعدة وجدول أعمالها".

وكان خطاب توني بلير الشخصي للقذافي من أول المستندات السرية التي ظهرت في أعقاب الثورة الليبية. ففي 16 شباط/فبراير عام 2011 تجمهر المتظاهرون في مدينة البيضاء شرقي ليبيا، مطالبين بالإطاحة بالقذافي. وبعد ذلك استغرق الأمر أكثر من ثمانية أشهر من المعارك الشرسة قبل أن يُسقط الثوار نظام القذافي بمساعدة الناتو. ولعب عبدالحكيم بلحاج دورًا في الثورة، إذ عُين قائدًا لمسلحي الثورة الذين سيطروا على العاصمة.

وفي العشرين من تشرين الأول/أكتوبر، حاصر الثوار القذافي جريحًا داخل أنبوب للصرف في مدينة سرت. وأظهرت الصور الملتقطة على الهواتف المحمولة، اللحظات الأخيرة للطاغية الذي حصد نتاج صداقته مع بريطانيا، حيث تم سحله وضربه، ثم طُعِن في ظهره إلى أن مات. وقد توفي ثلاثة من أبناء القذافي خلال هذه الثورة، في حين أن سيف الإسلام، الذي اعتقله الثوار، تخلى عنه أصدقاؤه في لندن، وأمضى في السجن ست سنوات.

بعد الثورة عثر في مكتب موسى كوسا، على الوثائق التي تكشف التعاون بين المخابرات الليبية والبريطانية
بعد الثورة عثر في مكتب موسى كوسا، على الوثائق التي تكشف التعاون بين المخابرات الليبية والبريطانية

وفي تلك الأثناء، كان قد تم الكشف عن أول مخبأ سري لوثائق المخابرات الليبية، ونُشرت بعض محتوياتها. ومع كشف الغطاء آنذاك عن الدور الذي لعبه أجهزة الاستخبارات البريطانية في عملية اختطاف عبد الحكيم بلحاج وسامي الساعدي وأسرهم؛ أدلى ريتشارد ديرلوف، رئيس الاستخبارات في ذلك الوقت، بتصريحٍ علنيٍ نادرٍ، دفاعًا عن سلوك الاستخبارات البريطانية، قال فيه إن وزراء الحكومة قد وافقوا على تصرفات جهاز الاستخبارات، مضيفًا: "كان قرارًا سياسيًا، يصبو إلى تجريد ليبيا بشكل كبير من أسلحتها، لكي تُباشر الحكومة تعاونها مع ليبيا في مجال التصدي لإرهاب الإسلاميين".

ونتيجة كشف محتويات الوثائق، تقدم عبد الحكيم بلحاج وسامي الساعدي والعديد من الأشخاص الذين تم احتجازهم وخضوعهم لأوامر مراقبة في بريطانيا، أو جُمدت أصولهم على أساس المعلومات المنتزعة عَنوةً من سجناء القذافي، بطلبات التعويضات ضد الحكومة البريطانية وضد الاستخبارات البريطانية على ما تعرضوا له من سوء المعاملة.

وتوصل سامي الساعدي إلى تسوية قضيته في عام 2012، عندما دفعت له بريطانيا 2.23 مليون جنيه إسترليني كتعويضٍ، دون أن تتحمل بريطانيا المسؤولية. لم يرفع عبد الحكيم بلحاج دعاوى قضائية ضد الحكومة البريطانية فحسب، بل أيضًا ضد ألين الذي كان مسؤولا عن جهاز "MI6" وجاك سترو الذي كان وزيرًا للخارجية.

وقال عبد الحكيم بلحاج إنه سيقبل بتسوية يُعوض بموجبها بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه إسترليني -مليون عن كُلٍ من الحكومة، وألين وسترو- شريطةً تلقيه هو وزوجته اعتذارًا صريحًا، لكن من غير المرجح أن تتحقق مثل هذه التسوية، وقد شرعت سكوتلانديارد في إجراء تحقيقٍ جنائيٍ في دور جهاز الاستخبارات في عمليات التسليم الليبية، ومن شأن الاعتراف بالمسؤولية أن يفتح المجال لاعتقال المتورطين.

وقد استمر التحقيق، الذي أُطلق عليه اسم عملية "ليد"، لأكثر من ثلاث سنواتٍ، حيث تم استجواب سترو كشاهد، رغم استمرار نفيه القاطع لأي مشاركة له في عملية تسليم أو احتجاز غير قانوني، في حين كان ألين، الذي رفض التعليق علنًا، هو المشتبه به.

وقد وُجهت إليه اتهامات محتملة تتمثل في المساعدة والتحريض وتقديم المشورة أو تنفيذ عملية الاختطاف والسجن الزائف والاعتداء أوالتعذيب وسوء السلوك أثناء توليه منصبًا عامًا. وتضمّن التقرير الشرطة أدلةً تُثبت أن ألين كان على اتصال بكوسا بشأن عمليتي التسليم، غير أن هيئة النيابة العامة للتاج البريطاني (CPS) اعتبرت، في حزيران/يونيو من العام الماضي، أن الأدلة المتوفرة غير كافية لتوجيه الاتهامات ضد ألين.

 وتم التحقيق أيضًا في عمليات التسليم الليبية خلال تحقيق قصير الأمد جرى حول تورط بريطانيا في إساءة معاملة المشتبه في تورطهم في الإرهاب، بعد 11 أيلول/سبتمبر. وهو التحقيق الذي طالبتْ به الحكومة الائتلافية بعد الانتخابات العامة البريطانية عام 2010، لكنه أُغلق بمجرد بدء تحقيقات الشرطة، وسُلِم بدلًاعن ذلك إلى لجنة وستمنستر للاستخبارات والأمن.

وبعد أربع سنوات، لم تُقدم اللجنة تقريرها بعد. ويسعى محامو عبد الحكيم بلحاج البريطانيون حاليًا إلى مراجعة قضائية لقرار هيئة النيابة العامة للتاج البريطاني، القاضي بعدم مقاضاة ألين، ولم يتم بعد الاستماع إلى طلب الزوجين الخاص بالتعويضات أمام المحكمة العليا. وقد كافح محامون حكوميون طيلة سنوات لإلغاء الدعوى، لكنهم خسروا قضيتهم أخيرًا أمام المحكمة العليا في وقتٍ سابق من هذا العام. ومن المتوقع أن تُعقد جلسة استماع خلال العام المقبل.

لتجعل من ليبيا حليفة لها، تعاونت بريطانيا مع أسوأ ديكتاتوريي المنطقة، الذي خدعها ولم يوقف أبدًا برنامجه لأسلحة الدمار الشامل!

 وفي عام 2011، تساءلت إليزا مانينغهام بولر، التي شغلت منصب المدير العام لجهاز المخابرات الداخلية البريطانية (MI5) من عام 2002 حتى عام 2007، عما إذا كانت بريطانيا قد تورطت بعمق، ولم تُحافظ على مسافةٍ كافية فاصلة في تعاملها مع الديكتاتور الليبي.

في الواقع، تسببت محاولة بريطانيا في جعل ليبيا حليفة لها، في تبعات مُربكة وشوهت سمعتها، خاصةً في أعقاب ما تم كشفه، في مستودع بعيد في جنوب شرق ليبيا، من قِبل المجلس الوطني الانتقالي الذي أُنشئ بعد وفاة القذافي، ويدل على أن الديكتاتور قد أخفى مخزونًا كبيرًا من الأسلحة الكيميائية. وعثروا بالفعل على قذائف مدفعية من غاز الخردل ومكونات يمكن استعمالها في صناعة أسلحة كيميائية أخرى، ليتضح أن القذافي لم يُوقف أبدًا برنامج أسلحته، ويكشف أن بريطانيا، ثم الولايات المتحدة بدرجة أقل، قد عقدتَا صفقةً مع أحد أسوأ الديكتاتوريين في القرن الماضي، الديكتاتور الذي تمكن من خِداعهم!

 

اقرأ/ي أيضًا:

تقرير تشيلكوت.. دماؤنا الرّخيصة!

ليبيا.. الصراع على الهلال النفطي وأثره في الأزمة