09-فبراير-2016

كاريكاتير لــ رايس دوكنتانتس عن أليكسيس تسيبراس وأزمة اليورو في اليونان

كتب ياني فاروفاكيس Yanis Varoufakis وزير مالية اليونان الأسبق، قبل الانتخابات البرلمانية المبكرة بأيام: "منذ أن اجتاحت الأزمة المالية اليونان سنة 2010، وقد سقط اثنان من رؤساء الوزراء بعد أن أرغموا على قبول حزمة من إجراءات التقشف غير المجدية المفروضة من سلطات الترويكا -المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي- ومن المؤسف أن نفس مصير هؤلاء يصيب صديقي ورفيقي أليكسيس سيبراس Alexis T sipras". بهذه الطريقة الحزينة عبر فاروفاكيس عن خيبة أمله فيما آلت إليه تجربة سريزا Syriza وسيبراس الأولى في الحكم.

بعد انتحابات 2015 في اليونان، حصدت كتلة سيريزا أغلبية نحو 35.5% من الأصوات لتحتل صدارة المشهد من جديد

لقد اضطرت حكومة "سيريزا" للقبول بحزمة أخرى من إجراءات التقشف بعد أن رفضت الجماهير في استفتاء شهر تموز/يوليو 2015 إجراءات شبيهة، وبعد أن قاد فاروفاكيس المفاوضات مع الترويكا بتشدد وصلابة، ثم استقال ليفسح المجال أمام سيبراس للحصول على شروط أفضل للتفاوض حول حزمة ثالثة من المساعدات الأوروبية -تقدر بقيمة 86 مليار يورو- وهو ما لم يحدث إلا بقدر محدود بعد أن هددت ألمانيا بإبعاد اليونان عن منطقة اليورو لمدة خمس سنوات.

وقف سيبراس أمام البرلمان مدافعًا عن خياره الإجباري قائلًا: "لا يوجد أمامنا بديل آخر وأنا آخر رجل يمكنه أن يتنصل من هذه المسؤولية". كان هذا الخيار يتضمن زيادات ضريبية وإصلاحات لنظام معاشات التقاعد وتعهد بالمزيد من الخصخصة.

لاقى سيبراس معارضة حادة من النواب الأكثر راديكالية في حزبه حيث امتنع عن التصويت وصوت ضده 38 نائبًا من المنتمين لكتلة سيريزا البرلمانية، مما اضطره لاحقًا للاستقالة وهو ما فتح الباب لانتخابات مبكرة في أيلول/سبتمبر 2015 حصدت فيها سيريزا أغلبية نحو 35.5% من الأصوات لتحتل صدارة المشهد من جديد وينجح سيبراس -مخيبًا ظن فاروفاكيس- في تشكيل حكومته الثانية بالتحالف مع حزب اليونانيين المستقلين Anel.

في أول تعليق له على نتائج الانتخابات قال سيبراس: "هذا النصر يعود للشعب وأولئك الذين يحلمون بغد أفضل وسنعمل على تحقيق ذلك من خلال العمل الشاق (...) الآن لدينا تفويض واضح وضوح الشمس للتخلص من نظام الفساد وسنعمل على أن تصبح اليونان بلدًا أكثر عدالة بالنسبة للضعفاء والمستضعفين". مثل الملاحم اليونانية القديمة تلاحق الأقدار سيبراس وحزبه وتتلاحق عليهم الانتصارات والهزائم بطريقة درامية مدهشة.

اليوم على حكومة سيريزا اليسارية أن تقود اليونان مرة أخرى نحو مخرج من الأزمة التي صنعها اليمين وبرؤية مختلفة عن اليسار الأكثر راديكالية، إلا أن الدرس الذي علينا أن نستوعبه بعمق هو كيف نجح حزب سيريزا بقيادة سيبراس في بناء الثقة بين اليسار والجماهير التي منحتهم فرصة ثانية للحكم، والتشبث بالمساحات السياسية الواسعة التي احتلها عبر نضالات حقيقية دون التنازل عنها لليمين المتطرف، رغم اضطرارهم لتقديم تنازلات ورضوخهم لخيارات واقعية كلفتها الاجتماعية ربما تكون فادحة وغير محتملة.

مثل الملاحم اليونانية القديمة، تلاحق الأقدار سيبراس وحزبه، وتتلاحق عليهم الانتصارات والهزائم بطريقة درامية مدهشة

والحقيقة أن ما رفع سيريزا للحكم أول مرة كانت معارضة الحزب الجذرية للتقشف على خلفية أزمة الديون اليونانية وتداعياتها، وإفلاس الأحزاب من اليمين ويسار الوسط التي طبقت التقشف بتطرف، ومن يوم أن أعلن سيبراس أنه لا بديل عن القبول بحزمة أخرى من هذه الإجراءات إلا الفوضى الكارثية، يتعرض حزب سيريزا لانتقادات واسعة من اليسار الأكثر راديكالية إلى الحد الذي وصل معه الأمر لحدوث انشقاق في حزب سيريزا نفسه وهو ما أسفر عن تشكل كتلة الوحدة الشعبية Popular Unity التي خاضت الانتخابات البرلمانية الأخيرة وحصلت على أقل من نسبة 3% من أصوات الناخبين اللازمة لتمثيلها في البرلمان، ويرتكز برنامج هذه الكتلة على الخروج من منطقة اليورو ومعارضة الاتجاه الأوروبي الأحادي. هذا بالإضافة لمعارضة الحزب الشيوعي اليوناني KKE التقليدية، الذي استطاع أن يحافظ على حصته من أصوات الناخبين عند حدود 5.5% من الأصوات وهو الحزب الذي وضع نفسه في قطيعة كاملة مع خط سيريزا السياسي منذ بداية تأسيسه ويرى في حكومة سيبراس حليفًا للرأسمالية العالمية التي تواطأت على مصالح الطبقة العاملة!

ورغم أننا لا نستطيع تجاهل أهمية قوى اليسار الأكثر راديكالية ووزنها النسبي في اليونان، إلا أن نقدها لسيريزا يتمحور حول مواقف تكاد أن تكون محض أخلاقية من النظام الرأسمالي العالمي وعلاقة مراكز القوى "الترويكا" فيه بصناعة أزمة اليونان واستمرارها، وحاولت مصادرة "لا" التي صوت بها اليونانيون ضد إجراءات التقشف في يوليو بأغلبية كبيرة لصالح خدمة مواقف أو مقولات أيديولوجية بعينها، وبغض النظر عن طبيعة الممارسة الديمقراطية للاستفتاء الذي لم يكن مطروحًا عبره خيار الخروج من منطقة اليورو أو غير ذلك من الخيارات الأكثر راديكالية مثل تأميم القطاع المصرفي وغيرها من خيارات، رغم جاذبيتها لا تجد لها أسسًا مادية أو واقعية تؤيد نجاعتها. إلا أنه يبقى النقد الأهم لسيريزا -بالتحديد نقد إقرارها حزمة إجراءات التقشف المفروضة من الترويكا في تموز/يوليو- هو نقد فاروفاكيس الذي وصف تصديق البرلمان على هذه الحزمة من الإجراءات بأنها "اتفاقية فرساي جديدة"، في إشارة إلى الإذلال الذي تعرضت له ألمانيا أعقاب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وما تعرضت له من أزمات مهدت لصعود النازية.

 وصف فاروفاكيس تصديق البرلمان على الإصلاحات بـ"اتفاقية فرساي جديدة"، في إشارة إلى الإذلال الذي تعرضت له ألمانيا 

فاروفاكيس الذي لا يرى في خروج اليونان من منطقة اليورو حلًا للأزمة، ويعتقد بأن الأزمة في اليونان ليست إلا انعكاسًا لأزمة منطقة اليورو الأكثر عمقًا، وصدى لخلاف محتدم ما بين فرنسا التي تدعو لعملة ذات سيادة تتمتع باستجابة أكثر مرونة مرتبطة باتحاد سياسي يمنع تفتت منطقة اليورو، وبين ألمانيا التي تصمم على استقلال مالي للدول أعضاء المنطقة واتحاد سياسي فقط في حدود حق النقض لمواجهة الدول المخالفة للقواعد المالية، على حد تعبير فاروفاكيس لقد سحقت أوروبا اليونان بينما كانت الأفيال تتصارع، ولهذا يعتقد أن التقشف ليس حلًا وأن اليونان لن تتعافى إلا من خلال مقرطة الاتحاد الأوروبي، أو الانتقال من صيغة "نحن الدول" إلى صيغة "نحن الشعب الأوروبي"، وهو ما سوف يستغرق سنوات طويلة لا يجد فيها فاروفاكيس أملًا بالنسبة لليونان بعد أن توقع أن يؤدي رضوخ سيريزا وحكومة سيبراس لضغوط الترويكا إلى تحول الناخبين صوب اليمين المتطرف الممثل في حزب الفجر الذهبي Golden Dawn المعادي للتقشف وأوروبا على السواء!

إلا أن سيبراس والتيار الرئيسي في سيريزا كان لهم أسلوبًا مختلفًا في معالجة الموقف-الأزمة؛ تصرف سيبراس في حدود الممكن بمسؤولية، أدركتها الجماهير بوعي فائق، جنبت اليونان الوقوع في فخ الفوضى الكارثية، التي تعد البيئة اللازمة لازدهار اليمين المتطرف. لقد صوتت الجماهير بزيادة طفيفة لصالح حزب الفجر الذهبي إلا أنه لم يحصد أكثر من 7% من أصوات الناخبين، واستجابت لرسالة سيريزا "سنبذل قصار جهدنا للتخفيف من حدة الكلفة الاجتماعية للتقشف المفروض علينا وسنحارب الفساد والنظام القديم".

لا شك أن المهام الملقاة على عاتق حكومة سيبراس صعبة وفي حاجة إلى طاقات إبداعية وحلول مبتكرة، ولا شك أن مخاوف من أن تجرف السلطة سيريزا ناحية اليمين ماثلة حيث يخشى أن يتحول الحزب إلى حزب باسوك PASOK آخر! وهو ما يدعونا لبحث إشكالية اليسار في الحكم ورهانات تعميق الديمقراطية، في ظل هيمنة النظام الرأسمالي العالمي ومؤسساته المالية الكبرى.

اقرأ/ي أيضًا:

امتصاص الصدمات الاقتصادية على الطريقة السودانية

أقوى خمس دول في العالم