29-يوليو-2015

لبنانيات في تشييع ضحايا تفجير السفارة الإيرانية في بيروت عام 2014 (Getty)

لم يتوقّف عدّاد الموت السّوري منذ مطلع عام 2011، تتنقل أرقامه بين البلدان التي يقاتل ويتقاتل أبناؤها في سوريا. للبنان حصّةٌ كبيرةٌ من الضّحايا. ضحايا يسقطون إمّا مساندةً للنظام، وإمّا لمناوئيه. وسط الدمار السوري المعلن تكاد طرقات الجنوب اللبناني، ومثله الضّاحية الجنوبية لبيروت، لا تخلو من صورٍ لشبابٍ يبتسمون أمام عدسة من صورهم. 

الصور ليست لإعلاناتٍ أو ما شاكل، هي صورٌ لشبابٍ سقطوا جرّاء قتالهم في سوريا، بينما يتفاخر بهم أهلهم أمام كاميرات التلفزة. تُطفئ الكاميرات ويغادر المشيّعون، وتبقى الأم، الأخت، الابن، الأب أو الزّوجة إلى جانب النّعش. نعوش أكثر من ألف شابٍ لبناني من عناصر "حزب الله" سقطوا في حربٍ أكبر من أن يخوضها فصيلٌ، إذ أمست حرب سوريا لعبةٌ أممية، وهؤلاء الشّباب، كما غيرهم من الذين يقاتلون مع أي طرفٍ كان، هم أحجار دومينو في اللعبة، يموتون ويتحول كلّ منهم إلى رقمٍ يُضاف إلى أرقام عدّاد الموت.

أكثر من ألف شابٍ لبناني من عناصر "حزب الله" سقطوا في حربٍ أكبر من أن يخوضها فصيل

انخرط "حزب الله" في الحرب السّورية في منتصف 2013، حسب المعلن، بحجّة حماية المقامات الدّينية، قبل أن يتوسّع بيكار مشاركة الحزب ليشمل أهدافًا أخرى، كالدّفاع عن خطوط إمداد "المقاومة"، وحماية البقاع اللبناني بعد تعرّضه للقصف بالصّواريخ من قبل بعض المجموعات المسلّحة، كذلك الحدّ من تقدّم هذه المجموعات ومنعها من دخول لبنان، خاصةّ بعد حصول تفجيراتٍ إرهابيةٍ طالت مناطق تُحسب بالولاء على "حزب الله". نجح الحزب في الحدّ من التّفجيرات وحماية القرى البقاعية، لكن ماذا عن خسائره في مناطق سوريةٍ بعيدةٍ عن لبنان كحلب ودرعا وغيرها؟

تجلس الأم وإلى جانبها نعش ولدها، تبتسم، تعزّي نفسها بأن فقيدها مات فداءً لنهجٍ ومقاومة، تلبيةً لنداءٍ إنساني للحرب حفاظًا على المجتمع، يعزّيها المعزّون ويشدّون على يدها، قبل أن يغيب نجلها تحت التّراب، ويأتي الليل، لتجد نفسها وحيدةً تبكي على وسادة ابنها. رسمت في خاطرها العديد من الطّموحات والأحلام، تخيّلته مهندسًا، طبيبًا، عاملًا في أي مجال، تخيّلت أولاده وهي تلهو معهم وتدلّلهم، لكنها لم تكن لتتخيل أبدًا أن تدفن ولدها بيدها بدلًا من أن يحملها في عجزها، ولأجل ماذا؟

لا يمكن القول أن المجتمع الشيعي، أو بيئة "حزب الله" ناقمةٌ على الحزب. بيئة الحزب ليست ناقمةً عليه، ولا تدعُو لأية انتفاضةٍ في وجه الحزب وحروبه، كلّها تخيّلات من نسج خيال كتّابها. بيئة "حزب الله" خائفة، كأي بيئة أقلّوية في الشّرق الأوسط. كالمسيحيين، والدّروز، والآشوريين، والأيزيديين وغيرهم من الأقلّيات، تجد هذه البيئة نفسها مُجبرة على حمل السّلاح والمشاركة في الحرب ضدّ تنظيمات كتنظيم داعش، بغضّ النّظر عن ما تُتهم فيه الأقلّيات، أي القتال إلى جانب النّظام. الأقليات تقاتل لأجل البقاء، لا سيما بعد انتشار التّطرف والإلغاء الدّاعشي، ومشاهد الذّبح، الإحراقِ والإغراق. الأقليات أو المجموعات الطّائفية التي يتكّون منها الشّرق، إضافة إلى أهل السّنة، هم ضحايا تنظيماتٍ مثل داعش كما هم ضحايا أنظمة مستبدة، فالتّطرف لن يراعي أحد.

لكن، كيف لأمٍ أو زوجةٍ قُتل ابنها أو زوجها في معركة بعيدةٍ عن محاربة داعش، أن تقتنع بصوابية المشاركة في الحرب السّورية؟ بعد سنتين من مشاركة "حزب الله" في الحرب الأهلية السّورية، وأكثر من ألف قتيلٍ وألفي جريح ومعوّق، تطرح الأسئلة نفسها: هل استفاد فعلاً "حزب الله" من تمسّكه بالقتال إلى جانب نظام بشار الأسد؟ أم أنه كان من الأجدى له محاربة المجموعات التّكفيرية في بلاده وعلى حدودها؟ هل يستحق النّظام تضحياتٍ بهذا الحجم، أو خسارة حزب الله لرصيده العربي الشّعبي؟ أو أن يتحوّل الحزب من مقاومة يؤيّدها أغلبية العرب إلى مجموعة طائفية؟

من المؤكد أن أهالي وعائلات هؤلاء الشّباب الموزّعة صورهم على أعمدة الكهرباء والجدران، لا يعنيهم أي جوابٍ على هذه الأسئلة، خسروا من كان معهم، وباتت أحلام المئات من الشّباب المبتسمين في الصّور، ذكرياتٍ منسية، سقط الشّبان العشرينييون على المذبح السّوري، في لعبة أممٍ أكبر من أحلامهم حتّى، ظنّوا أنّهم بموتهم يسقطون مشروعًا تقسيميًّا للمشرق، بينما هم منخرطون في هذا المشروع، كأدواتٍ تستعمل لأجل تقسيم الشّرق إلى دويلاتٍ، إسرائيلُ أقواها.