15-مارس-2018

منيف عجاج/ سوريا

للبدء بالحديث عن توصيف كتاب "القنّاص" (دار تموز، دمشق 2018) للكاتب عباس علي موسى ومضمونه من حيث النوع الأدبي، على أنّه "نصوص" سيتبادر للذهن للوهلة الأولى مبدأ الفصل بين تلك السرديات التي وردت في الكتاب، ولكن الحاصل أنّ الكتاب هو كلّ متكامل، تنتفي فيه صفة الفصل بين مضامين العناوين، التي تأتي في حالة توارد لخواطر مضطربة لشخص مضطرب، هو شخصية "القنّاص" في هذا الكتاب، أو أيّ قنّاص آخر.

في نصوص عباس علي موسى، يحاكم القنّاص نفسه بنفسه

من هذا المنطلق كان من الواجب بمكان إيراد ما ينمّ عن هذا التواصل الوجداني بين جزئيات الكتاب، تبعًا للتواصل الوجداني بين الكاتب و"قنّاصه"، أو وفق السردة الوجدانية للقنّاص الذي يعيد محاكمة نفسه بنفسه بعد سرد مطوّل لما يعيشه من ألم داخلي، جاءه من تناقض بين ما هو عليه، وما كان عليه سابقًا (قبل أن يمتهن القنص)، وألم كامن في أعماقه على صديقه الذي تم قنصه، وبين كونه شخصًا منعزلًا عن كلّ من هم حوله، راغبًا في الحرية، وإن كانت تلك الحرية هي التحرّر من ضرورة التصويب بدقة وتحقيق الهدف، بعيدًا عن حالة الجنود الأغرار الذي يشعر بمدى حريتهم بالمقارنة مع ما يعيشه.

اقرأ/ي أيضًا: "أخبار الرازي": قفا نبكِ على الثورة التونسية

للحديث أكثر عن تجذّر ذاتية الكاتب وكرهه للقتل وحبّه لمفهوم قد يكون "الوطن" أو قد يكون كلّ من يعيش في هذا الوطن، يجب القول بأنّ الكاتب يتأرجح ما بين الرغبة في قتل القنّاص وما بين الإبقاء عليه حيًّا، فتبدو الصورة على حالتي الضبابية والتناقض فوصول النصوص إلى ما يشبه ساعة مقتل القنّاص حتى تمنحه (وبشكل يشبه التناقض والخطأ القاتل) الحياة مرة أخرى، والسؤال الذي سيبدو طبيعيًا هنا هو: هل القنّاص هو الكاتب نفسه، الذي يراوده هاجس التخلّي عن الرغبة في القتل، تلك الرغبة المشوبة بالتعليل بقتل العدو تارة، وتارة أخرى بقتل أبرياء وهاجس مقتل هذا القناص؟!

الكتاب يبنى على تناقضات كثيرة تثير الشكّ في قدرة الكاتب على التمسّك بخيوط الربط والوصل بين نصوصه حينًا، وحينًا في مدى قدرته العجيبة على سرد الحكاية من البداية وإلى النهاية بسلاسة مريبة، تبدو هي الأخرى مرتبكة بين تراتبية النصوص، حيث يمكننا اللعب هنا على وتر ترتيب النصوص التي تبدو وكأنّ الكاتب قد أخطأ فيها حينا، وحينا تظهِر إبداعًا عميقًا وتعويضًا عن مهارة "القنّاص" نفسه في التخلّص من ذاته القاتِلة؛ تلك الذات التي لم تعتد القتل، ولكن مارسته.

[[{"fid":"98959","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"القنّاص","field_file_image_title_text[und][0][value]":"القنّاص"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"القنّاص","field_file_image_title_text[und][0][value]":"القنّاص"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"القنّاص","title":"القنّاص","height":300,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

وفي نهاية المطاف يخفق الكاتب في صراعه مع قناعه، لأنّه يفشل في تسليمه للموت مع كلّ المحاولات في هذا الصدد، ورغم تلويحه بالموت في نهاية الكتاب، إلا أنّه لم يرغب أو (يجرؤ) على قتله، وهي نتيجة طبيعية لرغبة الكاتب في البقاء على قيد الحياة، ولكن عدم قدرة الكاتب على التجرّد من قنّاصه هو تمامًا ما زاد من تأرجح الكتاب بسهولة بالغة مع السرديات المونولوجية للقنّاص، المنهار داخليًا، والذي لا يرغب في الموت، ولكن العودة بلا شوائب إلى حياته فيما مضى.

يعتبر الكتاب من الكتب التي تقرأ في جلسة واحدة لما فيه من متعة وانسيابية، وتولد للرغبة في معرفة مقاصد الكاتب وما ينويه بخصوص مصير قنّاصه، وتعتبر مفردات الكتاب من النوع السهل، المتناسبة في توليفتها مع النصوص، ولكنّها مفعمة برائحة البارود، وما يزيد من هذه الرائحة زيادة ترديد كلمة "القنّاص" دلالة على قرب الكاتب منه، مما يؤكّد الذاتية التي تظهر في النصوص، كما أنّ الزيادة في استخدام كلمة "الرصاصة" تمنحنا المزيد من اليقين برغبة الكاتب في حماية نفسه سواء من قنّاصه أو من كل ما قد يعتقده القارئ بخصوصه.

نصوص "القنّاص" للسوري عباس علي موسى كتاب يفوح برائحة البارود

اقرأ/ي أيضًا: رواية "خارج السيطرة": الجريمة بنيان غير مرصوص

كما أنّ الكاتب أنهك سردياته بوابل من علامات الترقيم الدالة في زيادتها على مدى حاجة الكاتب للمزيد من الاستراحات والوقفات والسكنات ولحظات الطمأنينة، التي تحيله لجهة القارئ، راغبًا في إقناعه بما يشبه الغموض في سريرته، مقتنعًا أنّ الجملة الأخيرة والتي وضعها في الغلاف الأخير "صوت الرصاص لم يثر فيّ فزعًا؛ أيقظني من الحلم فحسب" ستبرّئه من كلّ ذنب، لأنّ كلّ ما مضى لم يكن سوى سردًا لحلم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وليد السابق.. النفس البشرية تسير إلى خرابها

5 مفاتيح أساسية للدخول إلى عالم تشيخوف الأدبيّ