05-أغسطس-2015

اعتصام في القاهرة ضد أحكام القضاء المُسيسة (Getty)

بعد عام ونصف من الثورة المصرية، وتحديدًا في 30 حزيران/يونيو 2012، فاز محمد مرسي بانتخابات رئاسة الجمهورية، وقبل شغله المنصب كان قياديًا في حزب "الحرية والعدالة" الذراع السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين"، الذي كان يسيطر على ما يقرب من نصف البرلمان. جزء من الدعم الشعبي الذي أوصل مرسي إلى الرئاسة كان لأنه المرشح الذي دخل جولة الإعادة أمام الفريق أحمد شفيق، الذي كان آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، ما جعله يخوض معارك سياسية مع بعض مؤسسات الدولة والمعارضة باسم الثورة. الخلاف مع القضاء بالنسبة لمرسي وللإخوان سببه أنَّ القضاء، في ذلك الوقت، كان ما زال يعمل لصالح دولة مبارك العميقة، ويسعي لعرقلة الحكم الجديد، بينما اعتبر القضاة تصرفات مرسي اعتداءً على استقلالهم.

أول الخلافات كانت مع المحكمة "الدستورية العليا"، التي حلّت مجلس "الشعب" قبل انتخاب الرئاسة بأيام، لكن هذا الخلاف لم يكن الأخير. استمرت لعبة "شد الحبل" بين القضاء، وجماعة "الإخوان" وممثليها في الرئاسة والبرلمان. وحتى بعد أن سقط "الإخوان" عن الحكم، دأب القضاء على معاقبة أعضاء الجماعة، مُصدرًا أحكامًا متفاوتة بين الحبس والتحفظ على الأموال والإعدام على قيادات الجماعة وأعضاءها، فيما اعتبره البعض استخداما للقضاء من قبل الدولة للبطش بالإخوان.

حتى بعد سقوط "الإخوان" عن الحكم  دأب القضاء على معاقبة أعضاء الجماعة

مجلس الشعب: محل خلاف الرئاسة والدستورية

حكمت المحكمة "الدستورية العليا" بحل البرلمان الذي كان "الإخوان" يُمثلون أكثريته، وكان رئيسه محمد سعد الكتاتني، أحد أبرز قيادات جماعة الإخوان التي ينتمي إليها مرسي، وبعد فوز الأخير بالرئاسة بأيام، أعاد المجلس للعمل، على أن يُعاد انتخابه من جديد خلال ستين يومًا، إلا أنَّ المحكمة "الدستورية العليا" حكمت مرة أخرى في تموز/يوليو 2012، بأنَّ المجلس باطل بمقاعده كافة ويجب حله، وأنَّ عودته تشكل تهديداً لكيان الدولة، كما أنَّ المحكمة "الإدارية العليا" قضت في 22 أيلول/سبتمبر 2012 بأنَّ البرلمان "انتهى قانونًا".

عاد المجلس للعمل في الثامن من آب/أغسطس 2012، وفي نفس الجلسة أحال مسألة حله إلى محكمة النقض، معتبرًا إياها صاحبة الاختصاص في الأمر، ولم يحدد موعدًا جديدًا لانعقاده، ثم ردت المحكمة بأنَّها غير مختصة بذلك، فلم يعد بعدها المجلس للانعقاد.

الجمعية التأسيسية: مواجهة الحل مرتين

كانت خريطة الطريق التى وضعها المجلس العسكري تقضي بأن ينتخب الشعب برلمانًا، ثم يختار البرلمان لجنة تكتب الدستور، وبناءً عليه اختار البرلمان لجنة مكونة من 100 عضو لهذه المهمة، إلا أنَّ محكمة "القضاء الإداري" قضت في 10 نيسان/أبريل 2012 ببطلان اللجنة لأنَّها تضم أعضاء من مجلسي "الشعب" و"الشورى"، وهو ما رأته المحكمة مخالفًا للإعلان الدستوري، فأُجبر البرلمان على تشكيل لجنة جديدة على أن يكون أعضاؤها من خارجه.

اللجنة الجديدة لم تسلم من الطعن أيضًا، إذ رأى المعارضون أنَّها غير ممثلة لفئات الشعب كافة، وخوفًا على اللجنة من مصير سابقتها، سارع محمد مرسي في 15 حزيران/يونيو 2012، إلى إصدار قانون يُحدد مواصفات لجنة الدستور، لتفادي حلها في جلسة محكمة "القضاء الإداري" التي كانت ستعقد بعد يومين.

كانت المواصفات التي في القانون منطبقة على اللجنة المشكلة وقتها، لكن القانون نفسه واجه شبهة عدم الدستورية، ورُفع الأمر إلى المحكمة "الدستورية العليا". هذه الأخطار دفعت اللجنة إلى الانتهاء من عملها في أسرع وقت، كما دفعت الرئيس المعزول إلى تحصين اللجنة بإعلان دستوري فيما بعد.                        

إعلان دستوري لا يقوى على صد الهجوم 

بحلول 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، كان مجلس "الشورى" يخشى مصير مجلس "الشعب"، كما كان الرئيس وجماعة الإخوان يسعون لتجنيب لجنة الدستور مصير اللجنة السابقة، وكانت قرارات محمد مرسي محل طعن أمام القضاء، فأصدر مرسي إعلانًا دستوريًا، يُحصن فيه قراراته من الطعن، وحصن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية من خطر الحل. اعتبر مجلس القضاء الأعلى هذا الإجراء اعتداءً على سلطاته، كما تسبب في احتقان الشارع ضد القرار.

وعلى وجه السرعة، هاجمت وسائل الإعلام الإعلان الدستوري، كما استضافت المستشار أحمد الزند، الذي كان رئيسًا لنادي القضاة حينئذ، وظل يهاجم الرئيس وجماعته، وهو الذي وصف هذا اليوم بـ"اليوم الأسود في تاريخ القضاء"، وقال: "يا سيادة الرئيس، قل لمن حولك كفوا عن إهانة القضاة والقضاء، وكفوا عن ذرف دموع التماسيح التي تتخذونها ستارًا للسب في قضاء مصر الشامخ النزيه، ومن يقل إن قضاء مصر فاسد فالحقيقة أنه هو الفاسد ومن يصدقونه".

وعقد النائب العام المعزول المستشار عبد المجيد محمود، مؤتمرًا جماهيريًا في دار القضاء العالي متخذًا نفس الهجوم، وصاحب هذه الإجراءات تظاهر القضاة في دار القضاء العالي وتعليق العمل بالمحاكم، ورفض عدد كبير منهم الإشراف على الاستفتاء الذي أُجري لاحقًا على الدستور الذي كتبته اللجنة المُحصنة.

وبالرغم من التحصين الذي صنعه الإعلان الدستوري للجنة التأسيسية ومجلس الشورى، إلا أنَّ أنصار الرئيس وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين تجمهروا أمام المحكمة الدستورية العليا يوم 2 كانون الأول/ديسمبر 2012، فيما سماه القضاء والمعارضة بـ"حصار المحكمة ومنع هيئتها من أداء عملها"، ولكن تحت الضغوط، اضطر مرسي إلى إلغاء هذا الإعلان في يوم 9 كانون الأول/ديسمبر 2012، مع الإبقاء على الاستفتاء في موعده.

النائب العام.. مسمار قديم

بعد أن مرّ على رئاسة محمد مرسي 100 يوم، ولم تتحقق الوعود التي أطلقها، إذ قال إنَّه سيعيد محاكمة المتهمين بقتل شهداء الثورة، بالإضافة إلى إنشاء "نيابة الثورة"، تصاعدت المطالبة الشعبية بتحقيق هذه الوعود، فسعى للتخلص من النائب العام عبد المجيد محمود المنتمي لعصر مبارك، وعينه سفيرًا لدى الفاتيكان، وهو المنصب الذي رفضه الأخير، متمسكًا بمقعده في دار القضاء العالي. ولأنَّ القانون يمنع إقالة النائب العام، فإنَّ مرسي انتظر إلى أن أطاح به عبر الإعلان الدستوري الصادر في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر.

كانت قرارات محمد مرسي حين كان رئيساً محل طعن أمام القضاء

لم يمر الأمر هكذا، فمحكمة استئناف القاهرة قضت بتعيين المستشار طلعت عبد الله الذي شغل المنصب خلفًا لعبد المجيد محمود تعيينًا باطلًا، وهو ما دفع الرئاسة لإعلان بقاء عبد الله في منصبه والطعن في حكم محكمة الاستئناف. بعدها قامت جماعة "الإخوان" بالدعوة للتظاهر أمام دار القضاء للمطالبة بـ"تطهير القضاء" وهو ما اعتبره القضاة إهانة جديدة.

هجمة قضائية مرتدة

لم تكن الخلافات بين الرئاسة وجماعة الإخوان المسلمين تقتصر على القضاء فقط، بل كانت معاركها السياسية مع المعارضة والحركات الثورية كثيرة أيضاً، ومع الاستقطاب والغليان الذي شهده الشارع، تدخل الجيش وأطاح بمحمد مرسي في 3 تموز/يوليو 2013، بعد مظاهرات شعبية خرجت يوم 30 حزيران/يونيو، ذكرى توليه الرئاسة. الفريق أول عبدالفتاح السيسي، قائد الجيش في ذلك الوقت، خرج ليعلن خريطة الطريق بعد عزل مرسي، وكان مما أعلنه تعليق العمل بالدستور الذي تم إقراره قبلها بأشهر.

وتم عزل المستشار طلعت عبد الله من منصب النائب العام بعد أن حكمت محكمة النقض من جديد في 2 تموز/يوليو 2013 ببطلان تعيينه، وعودة عبدالمجيد محمود إلى المنصب، لكنه فضل أن يتم تعيين نائب عام جديد، وبهذا اختير المستشار هشام بركات للمنصب بدلًا منه. أيضا تم حل مجلس الشورى يوم 5 تموز/يوليو بقرار من المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية، الذي صار رئيسًا مؤقتًا للجمهورية.

"الإخوان جماعة إرهابية"

لم تكن هذه الهجمة على الآثار المترتبة على حكم الإخوان وحسب، بل طالت مناصريهم أيضاً، فبدأ القبض على قيادات الجماعة منذ 3 تموز/يوليو 2013، وتمت محاكمتهم بتهم متفاوتة. ثم قضت محكمة الأمور المستعجلة بالتحفظ على أموال الجماعة، وكل من يثبت أنه يمول أنشطتها، وتطبيقا للقرار تم تشكيل لجنة من وزارة العدل برئاسة المستشار عزت خميس، لحصر هذه الأموال وإدارتها، وقضت المحكمة نفسها في شباط/فبراير 2014 باعتبار الإخوان "جماعة إرهابية"، قائلة إنَّ الجماعة تتعمد قطع الطرق، وتعتمد على أساليب الترويع والترهيب والقتل. وبناءً على هذا الحكم تم التحفظ على أكثر من 500 شركة تقول اللجنة إنَّها مملوكة لأعضاء وقيادات في الجماعة، بالإضافة إلى أكثر من ألف جمعية أهلية، وتحفظت أيضًا على حسابات خاصة لبعض الشخصيات الإخوانية، وما زالت اللجنة مستمرة في عملها حتى الآن، وتضيف إلى قوائمها أسماء جديدة.


الحبل حول رقبة الإخوان

العقوبات التي واجهها أعضاء الجماعة متفاوتة تماما كالتهم. إذ ألغى عدلي منصور الحد الأقصى للحبس الاحتياطي، وبهذا صار هناك الكثير من الإخوان ومعارضي النظام الجديد يقبعون في السجن لشهور من دون أن يحالوا إلى المحاكمة. هذه كانت أبسط العقوبات، بينما كانت عقوبات البعض أكثر قسوة، فعلى سبيل المثال، حكم على مرشد الجماعة محمد بديع حُكم عليه بالإعدام خمس مرات، بالإضافة إلى أحكام عدة بالسجن تصل في مجموعها إلى 104 أعوام عن 6 قضايا فقط، بينما لا يزال يواجه 36 قضية أخرى.

أما محمد مرسي، الرئيس المعزول، فُحكم عليه بالإعدام في قضية الهروب من سجن وادي النطرون، التى حدثت في 2011 أثناء الثورة، بالإضافة إلى حكم بالسجن المؤبد في قضية التخابر مع جهات أجنبية، والمقصود هنا حركة المقاومة الإسلامية - حماس، ولا يزال يُحاكم على ذمة قضايا أخرى. وحكم بالإعدام أيضاً على نائب مرشد الجماعة، خيرت الشاطر، ومحمد سعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب الذي تم حله. نحو ثلاث سنوات مضت من الخلافات بين القضاء والإخوان المسلمين، ولا تزال قائمة حتى الآن، حتى إن المتهمين في الأقفاص لا يكفون عن الإشتباك لفظياً مع القضاة على منصاتهم، تتمثل أحيانا في الضحك على كلامهم، أو عدم الاستجابة لطلباتهم، وإيلاء ظهورهم لهيئة المحكمة، والهتاف ضدهم، بينما لا تزال النيابة تستخدم الحبس الاحتياطي مفتوح المدة من دون الإحالة للمحاكمة مع كثير من المنتمين للجماعة، وهو ما يعتبر من وجهة نظر حقوقية عقوبة كيدية وليس حبساً على سبيل الاحتياط.