16-سبتمبر-2015

تروج أخبار ضدّ المهاجرين من اليمين على نحو متزايد (مدين هاليلوفيتش/الأناضول/Getty)

بينما كان مسؤولو القناة الفرنسية الثالثة (نور- با دو كاليه) يقومون بدراسة روتينية للإحصائيات على موقعهم على الإنترنت، لاحظوا أن مقالة قديمة سجلت، في بداية أيلول، رقمًا قياسيًا بعدد قرائها، بلغ قرابة الثمانين ألف قارئ في يوم واحد. بعد بحث وتدقيق تبين أن المقالة المذكورة نشرت بتاريخ 16 نيسان/ أبريل الماضي، وهي تتعلق بجريمة بشعة أودت بحياة الطفلة الفرنسية، كلويه، (تسعة أعوام).

إدارة التحرير تعمقت في البحث عن السبب الكامن خلف ارتفاع عدد قراء مقالة نشرت منذ خمسة شهور تقريبًا، وتمكنت من فك اللغز. على ما يبدو، قام أحد أصحاب النوايا "النظيفة" بنشر رابط المقالة على فيسبوك، وحرر الخبر على صفحته كما أراد: "الطفلة كلويه قتلت واغتصبت على يد مهاجر". وفي ضوء ما تشهده مقاطعة كاليه الفرنسية من أزمة تتعلق بالمهاجرين، كان التحرير الجديد للعنوان، حتى ولو كان تحريرًا فيسبوكيًا، كافيًا لتسويق المقالة بشكل هستيري، فوصلت إلى مئات الآلاف من الفرنسيين.

ثمة من القراء من لم يتكلف عناء قراءة عنوان المقالة الأصلي: "كلويه اختطفت، قتلت واغتصبت: المشتبه به اعترف". وثمة من نقل الخبر المحرف معترضًا عليه، خاصة وأن المقالة على موقع تابع لشاشة حكومية. يذكر أن الموقع نفسه نشر مقالة توضيحية اعتبر فيها أن اختيار هذا التوقيت بالذات لتحريف خبر قديم وشنيع مثل خبر مقتل الطفلة كلويه، لا يصب سوى في مصلحة أولئك الذين يرفضون استقبال المزيد من اللاجئين، وأولئك الذين يريدون وضع الجميع في نفس الخانة، مهاجرين ولاجئين.

لا أحد باستطاعته أن يخفي اليوم أن هناك حقدًا ينمو تجاه العرب وهو حقد محصور بقطر فاشي

غير أن خبر موقع القناة الفرنسية الثالثة لم يكن وحده الذي سبب بلبلة في الصحف الأوروبية وعلى مواقع التواصل الإجتماعي. فانتشرت صور وفيديوهات للصحفية المجرية بترا لازلو العاملة في محطة N1TV الخاصة، وهي تعتدي على لاجئين سوريين بينهم أطفال، كانوا يفرون من الشرطة.N1TV  معروفة بانتمائها اليميني، ولا يخفى عن المجريين أو حتى الأوروبيين أن وجود مثل هذه القنوات يروق لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي لم يتوانى رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر عند نعته ذات مرة بالديكتاتور أمام مسؤولين أوروبيين آخرين. هذا وقامت القناة بصرف الصحفية عقب الحادثة، علما أن الأخيرة لاقت تأييدًا صريحًا على شبكات التواصل الإجتماعي، خاصة في الأوساط اليمينية المتطرفة.

وإن دل هذان الخبران على شيء، فهما يدلان، بالدرجة الأولى على هشاشة التوافق الأوروبي فيما يتعلق بتنظيم اللاجئين، وهو موضوع أصبح بحاجة لحلول جدية وجذرية، إذ أن استمراره قد يوقظ شياطين فاشية نائمة، أوروبا بغنى عنها.

الكلام عن "الفَاشُوسفير" أو القطر الفاشي كثر في الأسابيع الأخيرة، حيث عرض موقع RTBF الحكومي البلجيكي تقريراً تحت عنوان "حرب المعلوماتيه في القطر الفاشي". التقرير يتكلم عن حرب تدور رحاها على شبكة الإنترنت بين وسائل الإعلام المعروفة والتقليدية، التي تلتزم إلى حدود معينة ومتباينة بشروط المهنة، ومجموعة أخرى من مواقع الأخبار الجديدة، تنتمي إلى جهات سياسية عديدة وبلدان عديدة، لكنها مهووسة بالمواضيع نفسها: المسلمون، الإسلاميون، المهاجرون واللاجئون.

ويقول التقرير إن استراتيجية هذه المواقع واحدة، فهي تعتمد على التضليل L’AMALGAME قبل كل شيء. أي إن مقالة تبدأ بلاجئ هارب من داعش، قد تنتهي بالقول إن اللاجئ الهارب و"الداعشي" المتوحش هما نفس الشخص، وبنفس الوحشية. ربما تكون المقابلة التي خصصها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الأربعاء الفائت لصحيفة "لو فيغارو" الفرنسية خير دليل على حجم الخلافات الأوروبية ومدى عمق أزمة اللاجئين. فساركوزي، الذي يستثمر سياسيًا قضية اللاجئين من باب الهوية الفرنسية، طالب "بدراسة جديدة لاتفاقية الشنغن، كما طالب بتعليق مؤقت لحق الإنتقال الحر داخل المنطقة التي تضم 26 دولة، ريثما تتفق الدول الأعضاء على تحديث الإتفاقية. على أن يتطبق هذا القانون فقط على المقيمين من غير الأوروبين داخل الإتحاد الأوروبي".

طالب ساركوزي بتعليق مؤقت لحق الانتقال الحر داخل المنطقة التي تضم 26 دولة

لا أحد باستطاعته أن يخفي اليوم أن هناك حقدًا ينمو تجاه العرب، وهو حقد محصور بقطر فاشي (فاشوسْفير) صغير، لا يمتلك سلطة حقيقية على أرض الواقع. ذلك إنه لو أعطينا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلا مفر من ذكر نزول الألمان إلى محطة القطار في ميونخ لاستقبالهم اللاجئين السوريين، ومن شكر آلاف الأوروبيين الذين حملوا ما لديهم من طعام وملابس وقدموها في مخيمات اللاجئين في كل أنحاء أوروبا، من دون أن ننسى ذكر ملايين المتعاطفين.

جميعنا في العمق نعرف أن أوروبا الغربية، ودول الشمال الكبير هي مهد الإنسانية الأخير. لو لم تكن كذلك، لما مشى شعب مهشم مثل الشعب السوري آلاف الكيلومترات إلى ألمانيا والسويد. مهما اختلفت أراؤنا حول سياسة الدول الأوروبية في الشرق الأوسط وأفريقيا، ومهما قيل عن تاريخ القارة العجوز الإستعماري، وتبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية، تبقى الشعوب الأوروبية هي الوحيدة التي استطاعت بناء المكان الأنسب للإنسان. اليوم، هذا المكان في خطر. فالعالم حوله يتكلم بلغة البراميل، يبيد معابد الحضارات، ثم يتهم المجلس الأعلى للعالم. يا للتفاهة.