"ولدتُ تحت تأثير طالع سيئ".

زفرتُ الهواء ببطء، وفكرت مطولًا بالقدر وفذلكاته، يتصرفُ كصبي مدلل، يجهدُ نفسه في إثارة من حوله وإغاظتهم بشدة، أو بالأحرى يتمادى، كهؤلاء الذين يجدون أنفسهم دائمًا في مركز الكون، ويترتب علينا، نحن المشاهدين، الفرجة والإعجاب والتصفيق.

حتى هذه اللحظة لا أعرف إلام ستؤول إليه الأمور؟ لكن رد فعلي المتفهم وغير المنفعل لفت انتباهي، مثل ورقة مهام طويلة وجدت نفسي، معلقة من طرفها الأيسر بالدبوس على لوح خشبي، وتميل قليلًا إلى اليمين بزاوية أربعين درجة.

أجل، يحدث هذا عند الوقوف على حافة العقد الرابع، يتسيد الصمت أحرج اللحظات، كحرج ثمانية أعوام أكلتها الحرب، ثم رمتك على قارعة الرصيف، مع أولئك الذين لا تنتمي إليهم المنح أو الوظائف أو الدراسات، لأنك تجاوزت العمر المناسب.. المناسب؟!

هذه الفترة الخصب التي مضغتها الحرب.. وبصقتك!

منذ عدة أيام، أرسلت ثورين إلى زبونة في أستراليا، ثوران من السجاد اليدوي المنسوج على النول، مبلغ لا بأس به سأتقاضاه، بعض الفواتير ستدفع ومشتريات أساسية ستشترى، كصوف جديد لإنجاز أعمال أخرى. قد تبدو فكرة نسج الثيران للوهلة الأولى غريبة، لكن بعض العناصر تتآلف مع التشكيل والمواد المستخدمة، فتبدو أفضل عند نسجها من غيرها، وما يميز الثور عن بقية المخلوقات سيرته الذاتية كإله، ونصف إله، وارتباطه بأساطير الخصب، وله صيت قلب شجاع وروح طيبة، لكن الإثارة الحقيقة تكمن في قرونه، القرون التي كلما استطالت ازدادت غرابة، وفي الغرابة جمالٌ يثير الدهشة، كالثور الأفريقي على سبيل المثال، وكأن قرونه المدببة تربط السماء بالأرض،كما يفعل راقص الميلوية، يرفع يدًا إلى السماء و يمد يده الأخرى نحو الأرض، الفكرة القديمة ذاتها عند المتصوفة والجوالين والمتأملين، على اختلاف أديانهم، وحدة عناصر الكون وارتباطها مع بعضها البعض، في كينونة واحدة.

إنها الحادية عشرة والنصف صباحًا، أذهب إلى البريد الرئيسي للمرة الثانية، وأركب الباص الكهربائي للمرة الثالثة، أجلس على كرسي قرب الممر لأتفادى أشعة الشمس من الجانبين كليهما. سأخبر موظفة البريد الروسية إن البريد الأسترالي أعاد طردي بالخطأ "by mistake"، وأقصد هنا بالضبط طرد الثورين، وهذا ما قالته لي بالفعل الموظفة الأسترالية قبل ساعة، عندما اتصلت بهم.

المشاكل البريدية لا تنتهي، جُلّ تفكيري الآن أن أجد الحلول بسرعة، وكل ما أرغب به أن يصل البريد إلى صاحبته لأقبض ثمنه، فقائمة المشتريات تطول وتقصر وتختزل، ويا ليت هذا الطالع السيئ، والنجم الغبي الذي يرعاني منذ ولادتي، يجعل الخيبات أكثر رومانطيقية!

هؤلاء الذين ولدوا تحت تأثير طالع سيئ تجتمع بهم في الباص الكهربائي، إلى جانب أولئك الذين ولدوا تحت تأثير طالع متوسط، فأجرة هذا الباص هي الأرخص، وقد ارتفعت منذ تسعة أعوام من ثمانية روبلات إلى خمسة عشر روبلًا. والجالس أمامي الآن يبدو من ذوي هذا الطالع المشؤوم، ملابسه حذاؤه أدوات العمل التي يشف عنها الكيس البلاستيكي، جميعها تشي إلى أي طبقة اجتماعية ينتمي. أذناه تندفعان بشكل ملحوظ إلى الأمام، عيناه كبيرتان جاحظتان، وله رقبه غليظة توحي بطبيعة عمله الذي يعتمد على قوة اليدين والذراعين، كنت مؤمنة وأنا أتفرس في المظهر الخارجي للرجل بأن في داخل كل منا قاتل، هي الظروف فقط، وهذا ما قالته أيضًا إليف شافاق، لكني لم أعد أذكر تحديدًا هل في رواية لقيطة اسطنبول، أم في قواعد العشق الأربعون.

لا بد وأنها الكارما، الطاقة التي تجذب ما يماثلها، أي كما نقول الطيور على أشكالها تقع، وأنا التي ولدت تحت تأثير طالع سيئ في يوم خريفي ودمشقي بائس، أجذب من هم على شاكلتي، أو ربما بغير وعي مني أبحث عنهم ما إن أصعد الباص الكهربائي وأجلس بالقرب منهم، أنتمي إليهم وينتمون إلي، نحن الفقراء الملعونين الذين طردتنا الحياة من خارج رحمتها.  

سألتني الموظفة الروسية مستغربة: أعادوا لك البريد بالخطأ؟! أجبتها مؤكدة: "نعم، بالخطأ"، وأردفتْ قائلة: "حظك سيئ"، أعرف هذا تمامًا، هذه العبارة كنت أسمعها وأنا صغيرة عن نساء عائلتنا الشركسيات، نحن أولاد أبي، وأحفاد جدي وجَدُّ جدي، ومن قبله قتلوا في حرب إبادة، إلا واحدًا، نجا فأنجبنا، هل تعتقد حقًا بأنك محظوظ إن نجوت من حرب.. حرب إبادة؟!

لذاكرة الدم المتوارثة أفواه كثيرة، أرغب في أن أخيطها لكن الأمور لا تجري على هذا النحو.

استقليت الباص الكهربائي للمرة الرابعة في هذا اليوم، ولكنها ليست الأخيرة إذ يجب أن أعيد الطرد البريدي من منزلي إلى البريد، فمديرة الموظفين قالت: الأفضل أن ترسلي الطرد مجددًا إلى أستراليا، ما يرسل بالخطأ تُرجعيه فورًا. "حسنًا" قلت، سأستقل الباص الكهربائي للمرة الخامسة والسادسة، إذ لامجال لمزيد من الأخطاء.     

الشمس تتوسط السماء، أستقل الباص الكهربائي للمرة السادسة، وضعت ساقًا على ساق ونظرت عبر لوح النافذة، سرعان ما انتقلت بناظري إلى المرأة الجالسة قبالتي، بدت لي أكثر إثارة من كل ما يمر بسرعة بطيئة خارج هذه العلبة المعدنية الكبيرة. كانت نائمة وبعمق، امرأة روسية في عقدها الخامس شعرها أشقر كاري، ليست نحيفة ولا سمينة، ترتدي حذاءً بلاستيكيًا كالذي ينتعله المزارعون وجوربًا صوفيًا سميكًا في شهر تموز، حتى لا يخدش جلدَها الحذاءُ القاسي، مما جعلني أفكر مطولًا عن احتمالات المهن التي تزاولها، قميصها قطني وسماوي اللون، طُبع عليه نسر يفرد جناحيه، وكتب فوقه Eagle، والنظرة القاسية للنسر في تضاد مع وجهها ذي القسمات الناعمة، ورغم الضجيج والقرقعات المعدنية، الصادرة عن محرك الباص، استسلمت بشكل كامل للغفوة الطارئة، التي تمكنت منها بفعل الإرهاق، كانت تشبه تمثال الطفل الملاك، الذي يقف عادة في البحيرات المرمرية، يميل بوجهه قليلًا إلى الجرة ويسكب الماء. توقف الباص عند المحطة الأخيرة ولا تزال نائمة، أصدرت حركة بوقوفي حتى تشعر بي، لكنها لم تتحرك، مددت يدي لألمسها، تراجعتُ.  

اقتربت منها وقلت لها: "أيتها السيدة لقد وصلنا".

فتحت عيناها الزرقاوان وسألتني: "المحطة الأخيرة؟".

خطونا في الممر وشعرت بموسيقى تأتي من مكان بعيد متقطعة.. خافتة.. تشاو بيلا تشاو.. تتحطم النوتات الموسيقية على سلالم أشعة الشمس الحارقة.. تشاو.. وما إن نزلنا حتى لفحنا الهواء الخانق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تضحك كثيرًا كلما تعرّضتْ للضرب

تفاحة آدم