02-أغسطس-2023
مصرية ترفع صورة لأقاربها الذين فُقدوا في ليبيا أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا في 2020

(Getty) مصرية ترفع صورة أقاربها الذين فُقدوا في ليبيا أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا في 2020

صدر حكم بالسجن ثلاث سنوات على الباحث بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية باتريك جورج يوم 18 يوليو/ تموز الماضي، وبعد تنديدات حقوقية عديدة واستياء دولي من الحكم القضائي، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في اليوم التالي مباشرة، عفوًا رئاسيًا عن جورج، إلى جانب المحامي الحقوقي محمد الباقر الذي قضى قرابة الأربع سنوات في السجن.

خرج جورج من مقر احتجازه متجهًا إلى مدينة بولونيا بإيطاليا لاستلام شهادته من الجامعة التي حُرم من استكمال دراسته بها، بسبب حبسه احتياطيًا لعامين ثم إخلاء سبيله على ذمة القضية ومنعه من السفر حتى صدر ضده الحكم بالسجن لثلاث سنوات، قبل أن ينال العفو الرئاسي ليصبح حرًا كليًّا للمرة الأولى منذ قُبض عليه في 2019.

للأرض مكانة خاصة عند المصريين، يضعونها في مقام "الشرف"، والتنازل عن الأرض بمثابة التنازل عن الشرف، ويعتبر الكثير منهم بيع الأرض من "العار"، وهذا المفهوم تحديدًا ما زال حاضرًا وبقوة في العقلية المصرية

أزعم أن المصريين أكثر ارتباطًا وتعلقًا بالأرض والوطن من غيرهم من الشعوب. كان المصريون أول الشعوب التي تعرف الزراعة وبطبيعة الأمور ما تبعها من استقرار على ضفاف النيل، هم أول الشعوب التي ترتبط بالأرض وتنتقل من حياة الرعي وحياة الصيد إلى حياة مستقرة تجمعها أسرة ومجتمع وأرض.. دولة مصغّرة بالمفهوم الحديث. عرف المصريون قيمة الأرض ومعنى الانتماء إلى مجموعة إنسانية وحاضنة اجتماعية داعمة قبل جميع الشعوب، تجذّر هذا المعنى بداخلهم وتوارثته الأجيال حتى جيلنا الحالي.

لم يفهم المصريون الهجرة ولم يعتادوها رغم موجات النزوح الكبيرة إلى الخليج بعد ثورة النفط، سعى الملايين إلى العمل في دول الخليج خاصة في تسعينات القرن الماضي، خرج الملايين من مصر بحثًا عن وظيفة آمنة وأجر جيد يساعد عائلاتهم في صعوبات المعيشة ويؤمن مستقبل أبنائهم، هذا النزوح لا يُحتسب كهجرة، فأغلب هؤلاء يتركون أسرهم في مصر ويعودون بشكل شبه منتظم على هيئة إجازات، والقليل منهم الذي انتقل مع أسرته بالكامل إلى الخليج يعود بعد فترة طويلة، بعدما أنهكته الغربة وانتابه الحنين إلى الوطن رغم كل هذه السنوات من الفراق.

للأرض مكانة خاصة عند المصريين، يضعونها في مقام "الشرف"، والتنازل عن الأرض بمثابة التنازل عن الشرف، يعتبر الكثير من المصريين بيع الأرض من "العار"، وهذا المفهوم تحديدًا ما زال حاضرًا وبقوة في العقلية المصرية، بخاصة محافظات الصعيد، وشهدنا نماذجًا كثيرة في السينما المصرية تعبّر عن ذلك المعنى، أشهرها فيلم الأرض للمخرج يوسف شاهين وبطولة محمود المليجي، وكذلك الجملة الشهيرة "عواد باع أرضه"، والتي لها أصل في التراث الشعبي وتم توظيفها في السينما والدراما، للتدليل على معنى "العار والخيانة" لمن يتخلى عن أرضه.

حضرت الجملة في فيلم عايز حقي على لسان عبد المنعم مدبولي، وتحولت الجملة إلى أغنية شعبية قديمة للتحقير من عواد الذي باع الأرض.. عواد باع أرضه، يا ولاد.. شوفوا طوله وعرضه، يا ولاد، كذا استعان شاعر العامية المصري خلف جابر برمزية عواد في قصيدته المعنونة بنفس الاسم والتي اختتمها بجملة "عبّيت سنين العمر في المِخلة/ وقلت أرض الله لخلق الله/ عواد ماباعش الأرض.. هي اللي كات بايعاه". هذا المعنى الذي أشار إليه جابر في قصيدته، أن المصريين لا يتركون الأرض إلا قسرًا، لا يبيعون الأرض إلا إذا باعتهم، ومن هذه الزاوية فعواد لم يبع أرضه.

نشهد أكبر موجة تهجير قسري للمصريين، ليس بالمعنى الحرفي للكلمة، فلم يُجبر أحد على الرحيل، بينما هرب الآلاف بحثًا عن ملجأ آمن وهربًا من مضايقات الأمن واحتمالات الاعتقال أو العودة إلى السجون مرة أخرى، مجتمع جديد يتشكل من الدياسبورا المصرية، منفيون في كل دول العالم، ليس اختيارًا وليس قسرًا، هو مزيج من هذا وذاك، اختيار إجباري، منفى اختياري، شتات قسري، سمه كما تريد، فهو وضع استثنائي لم يختبره المصريون، ولذا من الصعب أن نجد له توصيفًا لغويًا مناسبًا.

انتشرت صور الاحتفال بخروج محمد الباقر وباتريك جورج من السجن، جميع الأصدقاء من الوسط السياسي والحقوقي يتوافدون على منزل الباقر للتهنئة والمباركة، ومن لم تسعفه الفرصة، لتواجده خارج البلاد، اكتفى بمكالمة فيديو للاطمئنان، إحدى الصور التي انتشرت كانت لمكالمة فيديو جماعية لأصدقاء بالخارج تركوا مصر في السنوات الأخيرة مرغمين، ما لفت نظري أن المكالمة ضمت 6 بلدان مختلفة، أمريكا وإيطاليا وألمانيا وتركيا ولبنان وتونس، هؤلاء الذين كانوا يجلسون على مقهى واحد منذ سنوات قليلة.

أسباب تأخر تشكل الدياسبورا المصرية ونشوء مجتمعات وحواضن بديلة، أن المصريين لم يفهموا أنهم في منفى، فلا يزالون يرفضون الفكرة واللفظ معًا

يتعجب الفلسطينيون الذين أعرفهم، وبعض السوريين من جملة "الشتات المصري"، لا يستسيغونها، يتحسرون على مصر كما نتحسر، اعتدنا على سماع جملة "الشتات الفلسطيني"، يوجد فلسطينيون في كل مكان هُجّروا وتركوا أرضهم قسرًا على مر السنين، أمر مفهوم نتاج سنوات من الاحتلال والتهجير، أيضًا نقابل سوريين هربوا من لعنة القصف والحرب والخطف والاعتقال وإجرام نظام الأسد أو الجماعات المتطرفة، أما اللبنانيون فالهجرة هي مبتغاهم من الأساس، لا يوجد رابط قوي مع الأرض، يتأسس اللبنانيون كي يكونوا مهاجرين ناجحين.

تشكلت مجتمعات للدياسبورا الفلسطينية والسورية واللبنانية، وتمكنوا تدريجيًا من صنع حواضن اجتماعية بديلة في دول عدة، صحيح لا شيء يعوض الوطن، لكن نجح بعض هؤلاء في مساعدة بعضهم وتقديم أيادي العون وانتشال ما أمكنهم ممن بقي في وحل مناطق الصراع، عانوا كثيرًا حتى يصلوا إلى نقطة الراحة والاستقرار التي تمكنهم من تشكيل مجتمع بديل، ومتأخرًا انضمت الدياسبورا المصرية إلى القائمة، شتات مرتبك وتائه لأنه حديث العهد بلا تجارب ولا خبرات، حتى الجملة نفسها ثقيلة على القلوب؛ "شتات مصري"!

حتى هؤلاء المصريون الذين خرجوا مبكرًا في بداية الأزمة السياسية التي نشأت في 2013، أغلبهم لم يتأقلم حتى اللحظة، لأنهم لم يتعاملوا مع الأمر كهجرة إنما كمرحلة مؤقتة ويعودون بعدها إلى أوطانهم بعدما تنقضي الأزمة، اليوم بعد 10 سنوات يجد هؤلاء أنفسهم في نفس المكان لم يتقدموا خطوة، ويدركوا أنهم تأخروا كثيرًا في تغيير طريقة تفكيرهم وتعاطيهم مع الغربة، وتفاجئوا بمشكلات كثيرة، بعضها خطير قد يهدد أمنهم، متعلق بتقنين أوضاعهم أو استخراج أوراق ثبوتية.

أسباب تأخر تشكل الدياسبورا المصرية ونشوء مجتمعات وحواضن بديلة، أن المصريين أنفسهم لم يفهموا أنهم في منفى، يرفضون الفكرة ويرفضون اللفظ.

اليوم علينا، نحن المصريون، أن ندرك في الخارج أننا، شئنا أم أبينا، في منفى، وعلينا البدء في التعامل مع هذه الفكرة وقبولها وتغيير وتطوير آليات تعاملنا مع الواقع الجديد، إذا ما أردنا تجاوز الماضي.