لا تزال السياسة بكل جراثيمها تحكم الفلسطينيين في تفاصيل حياتهم اليومية، وبالكاد نرى اليوم رغيف الخبز على موائد الغزيين، ولا كهرباء تنير منازلهم وشوارعهم، وتفاصيل كثير مأساوية أخرى، جميعها تحمل في طياتها السياسة.

لكن الجديد في الأمر أن السياسة في غزة أصبحت تدخل في منظومة الحلال الزوجية، وبدلًا من أن كانت "قسمة ونصيب" اليوم في غزة "سياسة وقسمة ونصيب"، ومن ينتمي لسياسة حزب ما يرحب به لزواج ابنة أحد المنتمين لحزبه، ومن الممكن للوالد إجبار ابنته على زواجه إن لم ترض، ولو تقدم له شاب له ارتباط بتنظيم آخر حتى لو في ماضيه، بالطبع الرفض شيء حتمي له. هذا ناهيك عن سطوة النظام البطريركي من الأساس.

الأشخاص الذين يرفضون النسب من المنتمين للأحزاب الأخرى، هم من المتشددين والمتعصبين في حزبهم

وتتعدد روايات ضحايا هذه القضايا. فكانت نور ضحية الزواج السياسي العام الماضي. وفي أحد الأيام الساعة الثانية منتصف الليل، رن هاتف منى "صديقة نور"، ففزعت من نومها وظنت أنها ستستقبل خبرًا سيئًا، لكن الخبر كان إجبار والد نور على الزواج من ابن زميله في التنظيم ولا يريد خسارته بداخل التنظيم، وشاءت أو لم تشأ عليها الزواج، لأن المصلحة العليا الحزب والسياسة.

وتقول منى: "حاولت التخفيف عنها وقتها، لأنني أعلم العقلية الحزبية لوالدها وتعصبه، ولم أجد نفعًا في الأمر، وكما كانت الفتاة تجبر في القدم على ابن عمها، هذا الأمر أصبح في حاضرنا في غزة أسوأ منه". وبالإشارة إلى هذا الأمر، فإن الأشخاص الذين يرفضون النسب من المنتمين للأحزاب الأخرى، هم من المتشددين والمتعصبين في حزبهم، وبعضهم لهم مناصب في الحزب، ويجدون في نسب الحزب الآخر مضرة للحزب.

وخلال إعداد هذا التقرير قمنا بسؤال شخصين، الأول منتمٍ لحركة حماس، والآخر لحركة فتح ومتعصب لها، وطرحنا عليهم سؤالًا واقعيًا، إن تقدم لابنتهم شاب مواصفاته جيدة لكنه منتمٍ لفتح، وللآخر قلنا إنه منتمٍ لحماس، فكان جواب الأول "من الأساس لا يجرؤ أن يخطي عتبة بيتي لأنه يعلم الإجابة، أنه مرفوض"، أما الثاني "من المستحيل أن يتقدم لأن يفعل جريمة في حق تنظيمه"، وعن سبب هذا الرد يقول الأول: "بيننا شرار ونار ولا أرضى لشخص يختلف معي ويعارض توجهي الصحيح أن يكون صهري"، لكن الثاني رد "لا يمكن تحمل شخص يحمل توجه سياسي يؤمن أنه الأفضل من غيره". طبعًا، يجب التذكير، أن الآباء يتحكمون بمصير بناتهم، وهذا رجعي أيضًا.

اقرأ هنا: عقد جديد للزواج في غزة.. ما هي تفاصيله؟

وبالرغم من أن قطاع غزة المنعزل عن العالم الخارجي، يحكمه العادات والتقاليد، إلا أنه بات أرحم من تصرف بعض الآباء خلال تزويجهم بناتهم على الحساب التنظيمي، لكن لا يتم الأمر عند حد الرفض فقط، فبعض الآباء المتحزبين خلال السؤال عن أخلاق المتقدم لبناتهم، لا يتبع أصول العادات والتقاليد في السؤال عنه في منطقته وبين معارفه كما هو متعارف عليه بالمجتمع الغزي، بل يلجأ لأمن تنظيمه ليقوم بالتحري عنه، والسؤال في جهاز الأمن الداخلي، وأيضًا المسجد القريب من منزله، وفي حال حصل على معلومة لم ترضه كشخص متعصب لحزبه، ووجد في ماضيه أي تشابك مع تنظيم آخر وهو في شبابه أو حتى جامعته، فبالطبع الرفض هو الأمر الحتمي له.

فمثلًا، محمد 29 عامًا، وقع إصبع الاختيار على فتاة رآها عند الجامعة، وتقدمت العائلة لهم على أن يتلقوا الرد بعد أيام. واجتاز السؤال عن محمد هذه المرة مرحلة السؤال في جهاز الأمن الداخلي والمسجد القريب منه، لكن وجدوا له منشورات عبر الفيسبوك يعبر عن رفضه لبعض التصرفات لدى التنظيم الذي يؤيده أخو الفتاة، وبالطبع هذا الأمر يثير غضب الأخ ويجدها حُجة للرفض، وأتى الرد بالرفض لأنه "يغلط على حركة..."، فتعجبت منه العائلة، وقالت الأم "حتى السياسة ملاحقانا هان".

ولم يتعجب محمد من الرفض في واقعه، وقام بنشر منشور عبر الفيسبوك "الناس رفضوني علشان بيقولي إني بأغلظ على الحركة إلي ينتمي إلها أخوها"، ويقول "شيء طبيعي لعائلة يحكمها فكر تنظيم أن يرفضوني، وموجود شبان لا يجرؤون التقدم لأي فتاة والدها يتبع للتنظيم الحاكم في غزة، وهو ينتمي لتنظيم آخر، حتى لو أعجبته".

أما في الرواية الأخرى، فكان نصر الشاب الملتزم قد جاءته فتاة على المؤسسة التي يعمل فيها وتقدم خدمات للطلاب، وهو في نفس الوقت يبحث عن شريكة حياته للزواج، فوجد فيها الصفات المطلوبة، وبالفعل عرف عنوان منزلها، وعاد لمنزله ليخبر أهله عنها.

يظلم الشاب والفتاة في اختيار مصيرهم في الحياة مع طرف غير مراد فيه

وتوجهت والدة نصر في اليوم التالي لمنزل الفتاة، وعادت تحمل السرور لابنها بعد أن وجدت الموافقة المبدئية من أهلها. لكن بعد أن عاد الوالد وسأل من هي الفتاة، وعرف، بدأ بالصراخ!! وقال لابنه "هذه ابنة فلان والدها كان في جهاز الأمن الوقائي السابق ونحن لا يشرفنا بتاتًا هذا النسب"، وبعدد إلحاح كبير من الابن قال الوالد "يا فرحتي أنا قدام الجماعة" أي التنظيم "يسيروا يقولوا لمين زوجت ابنك".

وبالطبع لا يمكن لنصر كسر كلمة والده، فوالده رجل تنظيمي وأحد أئمة المساجد في غزة، ويعتبر رفضه هو لمصلحة الابن وهذا النسب هو عار عليهم، والمصلحة الحزبية لا تسمح له بتاتًا بهذا الزواج.

وفي هذه الوقائع يظلم الشاب والفتاة في اختيار مصيرهم في الحياة مع طرف غير مراد فيه، بينما تنتج مشاكل مستقبلية وخلافات وقد تؤدي إلى الطلاق في كثير من الأحيان، في ظل بلوغ نسبة الطلاق في قطاع غزة نسبة 20% في عام 2015.

وكانت زهرة إحدى الفتيات التي أجبرت على الزواج بأمر من والدها، ومن شاب ابن أحد قيادي التنظيمات في غزة، وبعد مشاكل كثيرة بسبب عدم تقبلها الشاب بعد أن أصبح زوجها، حاولت الانتحار عندما رمت نفسها من الطابق الرابع، لكنها وقعت على أحبال من ثم الأرض، ولم تمت، بينما تعرضت لكسور في الحوض والرأس والقدمين ويدها، ورغم ذلك لم تطلق من زوجها. وقام والدها بالاتفاق مع المستشفى ألا تسجل حالة انتحار لعدم اعتبارها جريمة انتحار يحاسب عليها الطرف ويمكن جر أهلها لمعرفة سبب الانتحار في مركز الشرطة.

وفي ظل هذه الظواهر التي تظهر في حياة الغزيين، يمكن القول إنها ستزداد بظواهر أخرى أكثر سلبية، فهذا المجتمع مغلق، ولا يوجد فيه أي تطور اجتماعي واقعي يزيد الترابط بين الناس فيه، ولا تبادل ثقافات مع العالم الخارجي بسبب المنع من السفر أو الدخول لها. هذا ما يزيد من سلبيات العادات والتقاليد القديمة التي تحكمه، وبالإضافة للتنظيمات، وكلما تقدم الزمن وزاد الحصار ظهر معه جراثيم مجتمعية جديدة تهدد مستقبل الحياة الواقعة.