13-يوليو-2019

في قبائل الريف، المرأة ملك دائم لعائلة زوجها (الترا صوت)

لم تكن تعلم أن القدر سيغير خارطة حياتها، بأن يحرمها الموت من زوجها ووالد أطفالها، لتجد نفسها مرة أخرى عروسًا جديدة في بيت رجل آخر، كانت تناديه في زمن قريب بـ"أخ زوجي". تأمر "الجماعة" في قبائل الريف شمال المغرب، ولا مفر من الانصياع لهذا الأمر.

وسط جبال الريف، وتحديدًا في قبائل درادرة، لا صوت يعلو فوق صوت حكم الجماعة التي تجبر الأرامل على الزواج من أشقاء أزواجهن

وسط جبال الريف، وعلى بعد 200 كيلومتر جنوب مدينة شفشاون، وتحديدًا في قبائل "درادرة" الريفية؛ لا صوت يعلو فوق صوت "حكم الجماعة" الذي يتدخل في أسرار البيوت وتصرفات الصغير والكبير، ولا يحق لأحد الرفض أو استعمال كلمة "لا"، فيفرض على الأرامل الزواج بأشقاء أزواجهن الراحلين.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة في ريف المغرب.. طبقات القهر المركب

فاطمة.. استسلام مع سبق الترصد

فاطمة، امرأة في الثلاثين من عمرها، أضافت قسوة القدر والطبيعة في الريف، إلى عمرها سنوات، فأضحت تقاسيم وجهها توحي بأنها أكبر سنًا. فضلت فاطمة الحديث إلينا من بيت والديها لصعوبة الحديث إلينا بكل أريحية في بيت عائلة زوجها حيث تعيش.

تعود بداية قصة فاطمة إلى سنة 2005، عندما تزوجت للمرة الأولى وعمرها لم يتجاوز الـ20 سنة، من رجل لم تكن ترغب الزواج منه، لكتها رضخت لرغبة أهلها، ومع الزواج أصبحت تكن لزوجها مودةً وليدة العشرة.

المرأة في المغرب
المرأة في قبائل الريف ملك دائم لعائلة زوجها! (DW)

عاشت فاطمة، وفق ما حكت لـ"الترا صوت" رفقة زوجها خمس سنوات، قبل أن يُصاب بمرض عضال لم يمهله كثيرًا قبل يتوفى به، مخلفًا وراءه زوجة عمرها لم يتجاوز 25 عامًا، وطفلًا في الثالثة من عمره. كان ألم الفقد عظيمًا على فاطمة، التي حدثتنا بمرارة عما صاحب مراسيم جنازة زوجها من ظروف قاسية، خصوصًا أن مصيرها كان محسومًا فيه، وهو الزواج بشقيق زوجها، المتزوج.

أعراف القبيلة لم تستثن فاطمة، فبعد انتهاء أيام العدة كان عدل التوثيق في البيت ليجمع في "الحلال" بينها وبين "سلفها"، الذي يكبرها بـ17 سنة. تقول فاطمة: "لم أكن أرغب في الزواج منه أو من أي شخص آخر، لكن التقاليد وأعراف القبيلة فرضا عليّ الانصياع والقبول بأن أصير زوجة ثانية إلى جانب سِلفتي، التي أكن لها كل الود".

كان حديث فاطمة متقطعًا، وعلى الرغم من مرور سنوات على زواجها من شقيق زوجها الراحل، فإنها مازالت تُكرر جملة "اغتصبوا شبابي. كنت أفضل أن أبقى بلا زواج بعد موت زوجي". لم تجرؤ فاطمة على رفض الزواج من شقيق زوجها جهرًا، لكنها رفضته سرًا وإن خضعت لواقعها، مفضلة السكوت.

سليمة.. من قالت "لا"

إذا كانت فاطمة خضعت للأعراف والتقاليد، فإن سليمة وقفت في وجه القبيلة وقالت "لا" لزواج لا تريده.

سليمة ابنة قبيلة "الدرادرة"، تزوجت من ابن عمها وهي في عمر الـ19، وبعد مرور عشر سنوات أنهت حادثة سير حياة زوجها، تاركًا وراءه أرملة شابة وثلاثة بنات لا يتجاوز عمر أكبرهن سبع سنوات.

موت الزوج لم يكن منتظرا لا بالنسبة لسليمة ولا بالنسبة لعائلة زوجها. تقول سليمة لـ"الترا صوت"، إن الحادثة قلبت حياتها رأسا على عقب، ودخلت في حالة اكتئاب لم تعرف طريقًا للخروج منه. "لولا جرأتي لما استطعت أن أتخذ القرار الصحيح"، تقول سليمة. 

لم تنته الفاجعة في قصة سليمة بموت الزوج، بل تجاوزن بأن وجدت نفسها أمام قرار عمها ووالد زوجها الراحل، والذي يفترض أن يُنفذ دون أخذ رأيها، بأن تُزوّج من ابن عمها الآخر، شقيق زوجها، والذي يصغرها بعامين. 

تقول سليمة: "كنت في فترة العدة حينها جاء والد زوجي وعمي، يطلب مني الزواج من ابنه الثاني. لم أعرف بماذا أجيبه غير أنني طلبت منه انتظار انتهاء فترة العدة على الأقل، وبالفعل عند انتهاء هذه المدة قررت قول لا ورفض هذه الزيجة".

قرار "لا" كلف سليمة كثيرًا، إذ اتهمتها عائلة زوجها بالخيانة والتفكير في رجل آخر خارج العائلة، وهو الأمر المرفوض بالنسبة للأعراف السارية في القبيلة. وتوالت محاولات العائلة في ثني سليمة عن قرارها، لكنها تشبثت به ورفضت بشكل قاطع الارتباط بشقيق زوجها، ثم قررت أن تشد الرحال إلى مدينة شفشاون رفقة بناتها، إلا أن والد زوجها كان صارما معها "ارحلي واتركي بنات ابني معي".

كلفها القرار ليس فقط عائلة زوجها الراحل، بل وكذا أسرتها، ورؤية خاطفة لبناتها عند مدرستهن، بعد أن خيرها حكم الجماعة بين الانصياع لأمرها أو الحياة الجديدة دون حضانة بناتها، فاختارت الحياة الجديدة.

زكرياء.. معاناة بصيغة المذكر

والنساء لسن وحدهن ضحايا أعراف القبيلة وحكم الجماعة، فهناك زكرياء، شاب في الـ29 من عمره. تخرج في المعهد العالي للصحافة والإعلام بالرباط، وفي الوقت الذي كان يستعد فيه لأن يبدأ حياته كما خطط لها، صدر في حقه "حكم التقاليد" بعدما طلب منه والده الزواج من أرملة شقيقه المتوفى.

كان زكرياء ينوي الارتباط بزميلته في الدراسة قبل أن يجد نفسه مرغمًا على التخلي عنها والخضوع لرغبة والده وأسرته. يقول لـ"الترا صوت": "نزل عليّ طلب والدي كالصاعقة، ولم يكن بمقدوري أن أرفضه، خصوصًا أن المرحوم أخي هو من كان يتكلف بمصاريف دراستي في الرباط ومكانة زوجته وبناته كبيرة لدي، لكن الأمر ظلم كثيرا الشابة التي كنت أنوي الارتباط بها".

المرأة في المغرب
تحرم المرأة من عائلتها وأبنائها إذا رفضت الخضوع على الزواج من شقيق زوجها المتوفي (الترا صوت)

تخلى زكرياء عن حب حياته الذي رافقه طيلة سنوات الدراسة الأربع، وتزوج من زوجة أخيه، إلا أنه يفضل عدم الانجاب والاكتفاء ببنات شقيقه ويعتبرهن بناته، رغم إصرار أسرته على أن يُنجب من صلبه.

مستوى التعليم لم يفرق بين زكرياء وفاطمة وسليمة، فالشهادة الجامعية لزكرياء لم تحصنه أمام حكم القبيلة. يقول: "الأمر غير مرتبط بدرجة الوعي، أنا أعلم جيدًا أن القانون يحميني ويكفل لي قول كلمة "لا"، إلا أنني لا أستطيع قولها أمام والدي، الذي تعودنا طيلة حياتنا أن نرضح لأوامره وأوامر القبيلة".

مبررات القبيلة

وإذا كانت الأعراف والتقاليد تُجبر بعض العائلات على تزويج الأرامل من أشقاء أزواجهن، فإنه يجب الوقوف عند الأسباب والمبررات التي تُقدمها هذه الأعراف.

حميد، وهو عون سلطة بقبيلة "درادرة"، قال لـ"الترا صوت" إن "الأفكار التي تسيطر على الناس هنا هي عدم ترك أبناء الابن في حضن رجل غريب، لذا تطلب العائلة من الرجال الزواج من أرامل أشقائهن". 

هناك أيضًا الميراث. يقول حميد: "ترغب العائلة في الحفاظ على الإرث، إذ إن أغلبهن يملكن الأراضي والمنازل وشجر الزيتون، وفي حالة وفاة الأب ترثه زوجته وأولاده، والقبيلة ترفض أن يأتي رجل غريب ويستفيد من إرث ابنها، حتى وإن كان من الدوار نفسه، فإنه يبقى غريبًا ما دام ليس شقيقًا للمتوفي".

مآسي الميراث

تزوجت خديجة من ابن قبيلتها "درادرة" وسافرت معه إلى إيطاليا قبل أن توافيه المنية بسكتة قلبية غير منتظرة. كان زوج خديجة أستاذ رياضيات في المهجر، وكان راتبه يكفيهما للعيش والادخار. اشترى زوجها الراحل منزلًا في وطنه وأرضًا استثمر فيها زراعة الزيتون، قبل أن يتغير كل شيء بوفاته.

خديجة، التي حدثتنا عبر الهاتف من إيطاليا، وجدتا نفسها أمام عائلة همّ أفرادها الوحيد الحفاظ على الثروة التي خلفها ابنهم، ولا يفكرون لحظة واحدة في مصيرها هيَ، الشابة التي فقدت زوجها.

قالت محدثتنا: "سافرت إلى المغرب من أجل حضور الجنازة، وخلال الأيام الثلاثة الأولى طلب مني والد زوجي أن أحرر له وكالة عن كل الأملاك ليذهب إلى المدينة من أجل تسجيلها باسم حفيدته الوحيدة، الأمر الذي استجبت له بحضور عدل تكلف بتوثيق هذه الوكالة".

لم تكن خديجة تعلم أن هذا الإمضاء سيقلب حياتها رأسا على عقب وستحرم -هي وابنتها- من ميراث رب أسرتهم الراحل، بعدما قرر الجد أن يضع أرملة ابنه أمام خيارين: "إرثك معنا، إذا أردت الاستفادة منه تزوجي ابني فلانًا، فلا يمكن أن يذهب مال ابني إلى غريب". قرار نزل على محدثنا كالصاعقة، لتقرر السفر هي وابنتها، تاركة وراءها كل شيء آخر. 

قالت خديجة: "بعد سنة من رجوعنا إلى إيطاليا تلقيت اتصال من شقيق زوجي، العريس المفترض، يقترح علي أن نرتبط أمام العائلة فقط، وأن يكون الزواج صوريًا، حتى أستعيد أمالكي وأمالك ابنتي. وافقت على طلبه على وجه السرعة، وسافرت إلى المغرب وعقدنا القران بمباركة الوالد الكبير، الذي ألغى الوكالة التي كتبتها له مباشرة بعد عقد القران".

اغتصاب

محمد الفزازي، أحد أبرز الفقهاء في المغرب، قال في حديث لـ"الترا صوت"، إنه "إذا فرض على امرأة أرملة، الزواج من شقيق زوجها، فهذا الزواج يعد باطلا، ففي عهد الرسول عليه الصلاة والسلام جاءت امرأة تشتكي من أن والدها زوجها بالإكراه، فرد النبي ذلك الزواج وأبطله، بعد ذلك عادت وقالت له: يا رسول إني قبلت به الآن، ولكن فعلت ذلك حتى تعلم النساء أننا أحرار في اختيار الزواج".

المرأة في المغرب
يصف علماء دين ونفس الزواج بالإكراه في المغرب بـ"الاغتصاب" (الترا صوت)

 وأشار الفزازي أيضًا إلى حديث نبوي، يقول: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تُستأذن"، مشددًا على أن "الحياة الزوجية مبنية على الرضا والقبول، وهو أول ركن في الميثاق الغليظ". 

وذهب الفزازي إلى اعتبار مثل هذه الزيجات "صورة من صور الاغتصاب"، قائلًا: "ليس هناك ما هو أمرّ على المرأة من أن تقذف في حضن رجل لا تريده، وليست بينها وبينه أي علاقة نفسية وعاطفية، وهذا اغتصاب ومنكر عظيم لا عالقة له بالدين الإسلامي".

رأي الفيزازي وافقه فيه محمد بنزاكور، أستاذ علم النفس الاجتماعي، الذي يرى أيضًا أن هذه الزيجات مرادفة للاغتصاب "لأن الزواج أصله الرضا والتوافق، وهذه التقاليد والأعراف إقصاءٌ لحق المرأة في اختيار من تشاركه حياتها وجسدها، فكيف يمكن تخيل امرأة تمارس الجنس رغمًا عنها"، يقول بنزاكور. 

وأشار بنزاكور إلى أنه في كثير من الحالات، تجهل المرأة المجبورة على هذه الزيجات، بأن القانون يقف في صفها، وهو أمر يرى أستاذ علم النفس أن سببه تقصير من الإعلام عن أداء ما يعتبره دوره الإرشادي والتثقيفي.

الحفاظ على ميراث الابن هو الدافع الأساسي في إجبار الزوجة من الزواج بشقيق زوجها المتوفي في عرف القبائل

لكن من جهة أخرى، تبيّن لنا بالاستقصاء في قبيلة الدرادرة أن نساءً كثر يعلمن بموقف القانون من هذه الأعراف، لكن "من يقف معنا إذا قلنا لا؟ من يحمينا من الحرمان من أطفالنا وأملاكنا؟"، تتساءل النساء، فأخذ الحق بالقانون ليس سهلًا دائمًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نساء الفراولة.. ثورة مغربيات عاملات في الحقول الإسبانية

عريضة لإلغاء "التعصيب".. جدل المساواة في الميراث ينتقل إلى المغرب