17-يناير-2016

بغداد 2003

كنت أبحث البارحة في مقاطع اليوتيوب عن الصوت الذي هتف: "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد". الصوت الذي نادى للحرية بعيدًا عن أيّة شبهة وقناع، قبل أن يُعتقل ويُخطف ويهدم بيته ويلاحق ويكفّر وينزح ويلجأ ويعبر البحر إلى موتٍ بطيء بلا أحلام. 

أبحث عن تلك الروح التي كانت تحلم بوطنٍ حرّ، قبل أن تجلدها سياط القمع وتمزّقها سيوف التكفير

كنت أبحث عن تلك الروح التي كانت تحلم بوطنٍ حرّ، قبل أن تجلدها سياط القمع وتمزّقها سيوف التكفير، وقبل أن تتحول لافتة "الموت ولا المذلة" إلى كفنٍ لكلّ من طالب بالحريّة والعدالة والكرامة، وقبل أن يتحول حلمنا إلى حروبٍ بالوكالة تدار فوق أرضنا، ويصبح المتمسّك بالأرض والحلم كالقابض على الجمر.

تعثّرت في بحثي بأوبريت "الحلم العربي" (1996)، ومن بعده "الضمير العربي" (2008)، توقّفت للحظة قبل أن يسحبني الحلم إلى مقارنةٍ قاسيةٍ رحت أعقدها بين ما كّنا عليه في الحلم وما نحن عليه في الواقع. كانت متابعة قاسيّة لا يكفي أن تقول: "إنّها كذبة الحلم الذي عشنا عليه أجيال ورا أجيال". لايكفي أن تقول: "أين كنّا وأين نحن الآن؟".

تابعت "الحلم العربي" الذي رافق المأساة منذ كانت فلسطين هي القضية المركزية عند العرب، بدءًا بعام 1948 المعنونة بالهجرة، تهجير الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه. منظر البؤس والتعب الذي يكسو وجوه الناس وهم يحملون أطفالهم وأمتعتهم وومفاتيح بيوتهم أملًا بعودة لم تتحقق، هو ذاته مايحدث الآن في سوريا، الوجوه نفسها والقهر نفسه، مع فارق العدو بين أن يكون صهيونيّا غريبًا أو يكون عربيّا قريبًا. 

تابعت العدوان الثلاثي على مصر وخطابات عبد الناصر ساعة تأميم قناة السويس. هي ذاتها الطائرات التي تقصف بلادي، وتدمر البيوت فوق رؤوس أصحابها. هي ذاتها قوات التحالف الذي جمع العالم بأسره، مع فارق أنّ من يقصف هناك يقصف عدوًا بينما تتفنن طائرات النظام والطائرات العربية جنبًا إلى جنب مع الطائرات الفرنسية والبريطانية والأمريكية والإسرائيلية. تابعت بسخرية مريرة هذه المفارقة: "العرب وإسرائيل!".

تابعت 1967 النكسة، حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. رأيت كيف تقصف الطائرات الإسرائيلية وتجتاح قواتها بيروت 1982. رأيت الجثث الملقاة في أزقة صبرا وشاتيلا، أشلاء الأطفال، ألبومات الصور التي مزّقتها ومزّقت أجساد أصحابها الحروب الأهلية، الحجارة التي حملها أطفال فلسطين في الانتفاضة الأولى والثانية بوجه عدوٍ غادر.

في حياتنا السياسية العربية، ثمة وفاق ظاهري، ومن ثم حروب مستدركة وفتنة، لتأتي بعدها العودة إلى نقطة الصفر كلّ مرّة!

تابعت عناقيد الغضب وهي تمطر أهل الجنوب اللبناني بالموت. بكيت مع الأب الذي يحمل أشلاء أطفاله بيديه، والأم التي تندب وتولول فوق جثة ابنها. رأيت مجزرة قانا التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين. تذكرت غضبنا وألمنا واستنكارنا لكل تلك الجرائم، وتذكّرت سعادتنا وأنا أرى تحرير الجنوب والأسرى يخرجون من سجون الاحتلال الصهيوني بين عناق وبكاء. تذكّرت "أوجاعنا العربيّة" التي اتّخذت نكهة أشدّ قهرًا وأنا أرى وجوه أطفال العراق تحت الحصار وقد فتك بأجسادهم الجوع والمرض. 

تابعت قصف بغداد، العلم الأمريكي يغطي تمثال صدام حسين، جنود المارينز يدخلون بيوت الناس ويقودون الرجال والأطفال مكبّلين إلى سجن "أبو غريب". تابعت الاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة، الاقتتال بين فتح وحماس. الوفاق الظاهري، الحروب المستدركة، الفتنة، العودة إلى نقطة الصفر في كلّ مرّة!

دخلتُ في مقارناتٍ مؤلمة ومثيرة للسخرية في الوقت ذاته. أتأرجح بين ما حدث وما يحدث، أنتقل بشعوري كمن يقلّب ورقة بين إصبعيه. حدث هناك، يحدث هنا، قريب وبعيد، جرح قديم نكأته الذاكرة وجرح حديث نازف. مشاعر متضاربة وأنت تتابع تلك المشاهد وتأخذك منك إليك؛ لتتساءل: أليس هذا كلّه يحدث الآن في بلادك سوريا؟!، أليس هذا كلّه ما يحدث بشكل عبثي ومشوّه، مضاعفًا ومركّزًا بجرعاتٍ قاتلة؟.

ها نحن نموت برصاصة القريب، الرّصاصة التي قضينا عمرنا "أجيال ورا أجيال" ندفع ثمنها من دم قلوبنا لتحارب العدو الأوّل لنا، قبل أن نكتشف بأنّ صمتنا كان الضامن الوحيد لحياتنا وأنّ الرصاصة لا تخطئ رؤوسنا "أسفل منتصف الهدف". 

ها نحن نموت بالرّصاصة التي قضينا عمرنا ندفع ثمنها من دم قلوبنا لنحارب بها عدونا الأوّل لنا

نحمل ثيابنا وذكرياتنا وألبومات صورنا في نزوحنا ولجوئنا من أخ قريب، نموت جوعًا تحاصرنا بنادق وسيوف الإخوة. ها نحن نخرج من ديارنا في اتفاقيّات دولية بين طرفين لا يهتمان بحقنا في البقاء على أرضنا وفي بيوتنا. ها نحن نموت بكلّ الوسائل المتاحة، بأيد مكبّلة وعيونٍ مغمضة ورصاصة في الرأس، بسيف يجزّ رأس "من قال لا في وجه من قالوا نعم"، بقذيفة تأخذ البيت بأهله وذاكرته، ها نحن نخسر كلّ شيء في الواقع ولا نكسب حتى فسحة الحلم، الحلم الذي يطيب لنا أن نتذكره بمرارة ونبتسم استهزاءً منه، قبل أن نبصق على كلّ الأحلام التي عشنا عليها "أجيال ورا أجيال".

أليس هذا كله يحدث في سوريا؟! يحدث وأنت ترى أنّ من كان يغني للسلام صار عدوًّا صريحًا لحقك في الحياة. يحدث وأنت ترى أنّ من باركت يده التي تقصف الكيان الصهيوني، واحتضنته ببيت وقاسمته طعام أولادك وفراشك، أنهى المهمة وعاد ليقتصّ منك. يحدث وأنت ترى المظلوم وقد صار ظالمًا وحمل سيفه ليجزّ رقبتك باسم الثأر لدم الذبيح!

يحدث وأنت ترى حروبًا تدار فوق أرضك، وكلّ يصدر مشاكله الداخلية والخارجية إليك، فأنت الساحة التي يتصارع عليها المتصارعون، ويتّخذ كلّ طرف منك ذريعة، ولايمكن أن تتساءل: "هل لساحة المعركة كرامة عند المتحاربين؟".

أنهيت المتابعة وبداخلي تتكور غصات متلاحقة لا تهبني الحق في مساءلة الحلم الذي عشنا عليه "أجيال ورا أجيال"، لاتهبني فرصة مساءلة البيت العروبي الذي ولدت فيه وتربيت فيه. لا تهبني الحق في مساءلة الضمير العربي الذي غنى له الفنانون العرب.. غنوا له كي لا يصحو، بل لينام طويلاً! غصّات لاتهبني سوى ذلك المزيج غير المتجانس من المشاعر والذكريات والأفكار، بين حلمٍ مزيف وحلم مقتول، بين مطلب نبيل وحروبٍ قذرة، بين عدوٍ تعرفه جيّدًا، وأخٍ كالعدو أو هو!

اقرأ/ي أيضًا:

الميادين المُكبلة وأسئلة الثورة

الاستثناء المغربي الدامي