12-أبريل-2019

من اليمين: عبدالرحيم المسلوب وسلامة حجازي وعبده الحامولي (أرشيفية/ الترا صوت)

لطالما كانت الموسيقى جزءً لا يتجزأ من الثقافة المصرية على مر العصور، حيث بدأت من عصر الفراعنة، ثم مرت بمراحل وحقب مختلفة طبعت عليها، وأثرت في تشكيلها، حتى بداية القرن الـ19 الميلادي، حيث انتعشت الموسيقى والغناء في مصر بعد أن كانا في ركود لسنوات طويل، بما لم يواكب تطور الأغنية عالميًا.

محمد عبدالرحيم المسلوب، الذي عاش 135 عامًا، هو الرائد الأول بلا منازع للنهضة الموسيقية في مصر

وبحسب مؤخرين، بدأت النهضة الموسيقية في مصر خلال عهد محمد علي باشا، حين بدأت الموسيقى من الانتقال من مستواها الشعبي التقليدي غير المنظم في حفلات الزفاف والموالد وحفلات السبوع وطلوع المحمل، إلى التسجيلات الأولى القائمة على تلحين وتوزيع مدروسين.

اقرأ/ي أيضًا: بليغ حمدي.. أكبر من النسيان

وإن كان المشهور التطور الكبير في القوالب الغنائية في مصر مطلع القرن العشرين، على يد جيل ذهبي على رأسه الشيخ سيد درويش البحر، والذي يعتبره كثيرون أبًا روحيًا للموسيقى المصرية؛ إلا أن ما قبل سيد درويش وجيله، آخرون كانوا آباءً مؤسسين للموسيقى المصرية، حرروا الأغنية في مصر من العثمانلية التي طبعتها قرونًا، وحصرتها عند شكل تقليدي من الأداء الغنائي.

1. محمد عبدالرحيم المسلوب

يُعد الرائد الأول للنهضة الموسيقية بمصر، فهو من بدأ في تطوير الأغنية المصرية الحديثة. ولد في مدينة قنا بصعيد مصر، سنة 1793، وعمر لـ135 عامًا، فكان شاهدًا، ومشاركًا، لعقود النهضة المصرية من بعد الاحتلال الفرنسي إلى حكم الأسرة العلوية، فقد توفي المسلوب عام 1928، أي حتى بعد سيد درويش بخمس سنوات.

وعلى الرغم من الدور الريادي الذي لعبه الشيخ المسلوب في وضع أساس الأغنية المصرية الحديثة، لا يوجد سجل واضح لمسيرته الفنيّة، لذا لم يصل إلينا منها إلا القليل.

 انتقل الشيخ المسلوب من بلدته بقنا إلى القاهرة للالتحاق بالدراسة بالأزهر الشريف، وتخرج فيه، ثم عكف على دراسة الموسيقى. وهنا لم يرق للمسلوب حال الأغنية المصرية، حيث كانت الموسيقى السائدة وقتئذ خليطًا تقليديًا من الموسيقى الأندلسية والأنغام التركية، إضافة إلى التواشيح الدينية والفن الشعبي وما أطلق عليه أغاني الصهبجية.

من هنا بدأ الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب في تحديث الأغنية مبكرًا خلال السنوات الأولى لعصر النهضة، حيث شرع في تلحين الأغنيات بأسلوب جديد لم يعرفه أي موسيقار أو مستمع من قبله، وفي الواقع لم يكن هناك من يمكن إطلاق لقب موسيقار عليه، قبل المسلوب. 

واستطاع المسلوب من خلال أسلوبه المستحدث أن يعبر عن وجدان مصري خالص، بالاعتماد على مزيج مصري خالص في التلحين، كما فعل في "الدور" الذي كان نواة وبداية للأغنية المصرية الحديثة، ومن أمثلة ذلك أغنيته "يا حليوة يا مسليني".

وما هي إلا سنوات حتى سطع نجم المسلوب وصار أستاذ عصره، بأنماط جديدة في التلحين والغناء، تنوعت ما بين فنون الدور والموشح والأغنية الخفيفة. وتتلمذ على يده الكثير من العباقرة من أمثال: عبده الحامولي ومحمد عثمان والشيخ الشلشموني، الذي اكتشف سلامة حجازي. 

وصحيح أن التاريخ لم يترك لنا تفسيراً لأصل تسمية الشيخ محمد عبدالرحيم بـ"المسلوب" أو ظروف منح اللقب، لكن يبدو أن الشيخ كان له حظًا وفيرًا من أسمه؛ فالجميع سلبه حقه و دائمًا ما يتم نسب ألحانه إلى غيره.

ترك المسلوب ثروة هائلة ومتنوعة من الألحان، باتت مادة تراثية يستخدمها الفنانون دون الإشارة إليه حتى ضاعت حقوقه الفكرية والإبداعية، ولعل أبرز هذه الأعمال لحن دور "يا حليوة يا مسليني"، الذي مر عليه قرابة 170 عام، وغناه مئات من المطربين، ولكن كثيرًا ما ينسب لحنه إلى غير الشيخ عبد الرحيم، وكذلك لحن موشح "لما بدا يتثنى" الذي يظنها الكثير من تراث الموشحات الأندلسية، ولكنها في الأصل من تلحين المسلوب.

2. عبده الحامولي

علي النقيض من غالبية رواد مدرسة التجديد الموسيقي في القرن الـ19، لم يكن عبده الحامولي أزهريًا، فقد كان من "المطربشين" كما كان يطلق عليهم وقتئذ، إلا أنه اكتسب علمه وحسه المرهف من شيوخ أزهريين، غنى أشعارهم وألحانهم. 

ولد الحامولي في أيار/مايو 1836، بقرية "الحامول" التابعة لمركز منوف في محافظة المنوفية، لأبوين فقيرين، وتوفي في نفس شهر مولده عام 1901. وخلال تلك السنوات لعبت الصدف أدوارًا كثيرة في رحلته الفنية.

سافر الحامولي وهو صغير إلى القاهرة برفقة شقيقه الأكبر؛ بسبب خلاف وقع بين أبيه وشقيقه اختار فيه الحامولي الانحياز لأخيه، فجاؤوا باحثين عن مصدر للرزق في شوارع المحروسة، وهنا كانت الصدفة الأولى في حياة الحامولي،  عندما استمع صاحب مقهى في الأزبكية، لصوته فأعجب به وعرض عليه الغناء في المقهى لجذب الزبائن. 

وبالفعل لم تمض فترة قصيرة حتى أصبح للمقهى رواد دائمي التردد لاستمتاع بصوت الحامولي، وجنى صاحب المقهى، المعلم شعبان، من وراء هذا مكاسب كثيرة، حتى أنه زوجه عبده من ابنته، خوفًا من رحيله، وبدأ الأب وابنته يعاملان الحامولي معاملةً قاسيًا؛ فقرر الفرار.

بعد تحرر الحامولي من قيود المعلم شعبان وابنته، حدثت صدفة أخرى- قد تكون الأهم في حياة عبده، عندما التقى بشاكر أفندي الحلبي، واحد من أهم عشاق الأدوار والموشحات القديمة والتي كان يحفظها عن ظهر قلب، فتقرب منه وتتلمذ على يديه.

حقق الحامولي شهرة واسعة في عالم الغناء، وكوّن تختًا موسيقيًّا خاصًّا به، ومن أشهر أدواره "الله يصون دولة حسنك"، و"كأدنى الهوى"، وبالتأكيد "شربت الصبر" الذي غناه عنه الكثير ومنهم رياض السنباطي وداوود حسني. وجدير بالذكر أن أم كلثوم قد غنت "أراك عصي الدمع" باللحن الذي ألفه الحامولي.

في أثناء ذلك سمعه الخديوي إسماعيل وأعجب بصوته، فضمه لحاشيته، فترتب على هذا أمران: الأول أن الخديوي أرسله لعاصمة السلطنة العثمانية ''الآستانة''، لزيد من خبرته في الموسيقى. والثاني أن تعرف على كبار شعراء عصره مثل محمود سامي البارودي والشيخ عبدالرحمن قراعة مفتي مصر آنذاك، وغنى بأشعارهم أروع الأدوار.

غالبًا ما يرتبط ذكر عبده الحامولي بالمطربة الشهيرة "ألمظ"، التي تزوجها وقدّم معها ثنائيًّا غنائيًّا ناجحًا ذاع صيته، بعد أن كانت العلاقة بينهما تنافسية بشدة، وصلت حد التلميح والهجاء في أغانيهما، ليتمثلا بقصة حبهما المثل المصري الشهير: "ما محبة إلا بعد عداوة"، حتى اعتُبِرا المطربين الرسميين لقصر الخديوي، وتم تجسيد القصة فيما بعد في فيلم حمل اسم "ألمظ وعبده الحامولي".

بحسب ما ذكره المؤرخ كمال النجمي في كتابه "تراث الغناء العربي"، كان عبده الحامولى كبير مطربي القرن الـ19 بشهادة من عاصروه، ومع ذلك كادت أن تتكرر معه مأساة المسلوب من ضياع إرثه، فقد أوشكت مؤلفاته وأدواره أن تضيع لعدم تدوينها. لكن بعض تلامذته، حفظوا أدواره عن ظهر قلب، ثم أدركهم عصر الفونوغراف والأسطوانة، فسجلوا هذه الأدوار بأصواتهم وتركوها تراثًا للمطربين الذين جاءوا من بعدهم،

3. محمد عثمان

على الجانب الآخر من مدرسة عبده الحامولي، كانت هناك مدرسة منافسه القوي محمد عثمان، الذي أفقده المرض قدرته على الأداء الصوتي فركز جهوده في التلحين، ليقدم مجموعة من بدائع الألحان الغنائية في جيله.

برز محمد عثمان بين أول من حاولوا تطوير الموسيقى المصرية، خاصة وأنه كان أكثر تحفظًا من الحامولي تجاه الموسيقي التركية، لذا سعت مدرسته إلى تغيير الموروث الموسيقي والغنائي التركي والتحرر منه على كافة المستويات، بدءًا من الآلات، مرورًا بالإيقاعات والنغمات، انتهاءً بالمقامات، وكذلك القوالب الغنائية وطرق التأليف.

ولد محمد عثمان عام 1855 في محافظة القاهرة، لأب كان يعمل معلمًا لتحفيظ القرآن في جامع السلطان أبو العلاء، ما جعل ارتباطه بالموسيقى يبدأ مبكرًا، حيث كان يقلد المنشدين والقراء. وما أن اكتشف والده موهبته قرر ضمّه إلى تخت "قسطندى منسي"، فتعلم ودرس على يديه العود والغناء، ثم بدأ رحلته مع التلحين وتأليف الموسيقى، وهنا ظهر إبداعه كاملًا، فألف الكثير من الألحان المميزة، لدرجة أن الحامولي غنى له رغم منافسته القوية مع عثمان.

وبدلًا من البزق والسنطور والطبل التركي، وهي الأدوات التي كانت مستخدمة في التخت التركي، استخدم محمد عثمان العود والقانون والطبل البلدي والدفوف، صاحب ذلك بالتبعية اندثار بعد الإيقاعات التركية مثل "أقصاق داغر" و"سماعي أقصاق"، واستقرار إيقاعات مصرية أصيلة محلها مثل "الملفوف" والمقسوم" و"المصمودي"، فيما يعتبر أول تغيير جذري في شكل الموسيقى بمصر، ولذلك سمي بـ"أبو الموسيقى المصرية".

استنادًا إلى التطورات التي أدخلها على التخت والإيقاعات، انطلق محمد عثمان لاستحداث تراكيب وقوالب فنية جديدة عاشت بعده أكثر من قرن من الزمان. كما عمل على إضافة ابتكارات على قوالب الغناء وتطويرها، ولعل أهم هذه القوالب كان "الدور"، الذي بدأه الشيخ المسلوب، فانتقل بالدور إلى الشكل المكتمل الذي تعرفه، وأضاف عنصرًا جديدًا وهو غناء الكورس، بحيث يتم تبادل المقاطع بين التخت والمغنى والكورس فيما عرف بـ"الهنك والرنك".

وفي عام 1894 وبعد أن فقد عثمان نداوة صوته بسبب المرض، علم أن هناك اختراعًا في أوروبا اسمه "الفونوغراف" لتسجيل الصوت، فاستدعى تلميذه المطرب الكبير عبد الحي حلمي وقال له: "أوصيك يا عبد الحى إذا جاء اختراع الفونغراف إلى مصر أن تسجل دورين على الأقل من أدواري"، وبالفعل وجاءت شركات الأسطوانات إلى مصر، ولكن بعد وفاة عثمان، فوفى تلميذه بالوعد وسجل أغلب أدوار الفنان الراحل محمد عثمان.

فارق أبو الموسيقى المصرية الحياة في كانون الأول/ديسمبر 1900، تاركا خلفه تراثًا ضخمًا من الأغاني والألحان ما زالت خالدة حتى وقتنا هذا، منها "أصل الغرام نظرة"، و"نور العيون شرف"، و"غرامك علمني النوم"، و"قد ما أحبك"، و"كادني الهوى". كما ترك العديد من الموشحات منها، "ملا الكاسات وسقاني"، و"أتاني زماني"، و"هات يا أيها الساقي بالأقداح"، و"حير الأفكار"، و"اسقني الراح ويا غزالا زان عينه الكحل".

4. سلامة حجازي

في حي رأس التين بالإسكندرية، ولد سلامة حجازي عام 1852. توفي والده وهو في الثالثة من عمره، وتزوجت أمه بعده، ليصبح سلامة يتيمًا وحيدًا تمامًا، فكفله الشيخ سلامة الراس، أحد مشايخ الطرق السوفية، واعتبره ابنًا له.

أتاحت له نشأته في كنف الشيخ سلامة الراس، أن يشارك في حفلات الذكر مع مريدي الشيخ وسط القراء والمداحين، وهنا ظهر ما يمتلكه حجازي من موهبة صوتية. وخلال ذلك تعرف على كبير منشدي الإسكندرية فتعلم علي يديه قواعد الغناء والإنشاد.

وفي الـ30 من عمره، كوّن حجازي تختًا موسيقيًا خاصًا، حرص الكثير من أهالي الإسكندرية على حضوره. وقد حاول فيه التحرر من الموسيقى التركية التي كان المستمعون قد ملّوها.

لم يتوقف صيته عند أهالي الإسكندرية فقط، بل كان له محبين من القاهرة وهو ما دفعه للانتقال إلى المحروسة بحثًا عن التحقق في عالم الغناء. وخلال فترة وجيزة، حفر اسمه بين أساطير الغناء والطرب في ذلك العصر، بل وكأحد المؤسسين الأولى للموسيقى المصرية، وقد كان الشيخ سلامة حجازي أول من لحن الأوبريت الغنائي العربي.

ولم يكتف حجازي بالغناء في الأفراح والحفلات الخاصة، بل أنشأ مسرحًا غنائيًا، إلا أن مسرحه لم يكن في الحقيقة مسرحًا غنائيًا بالمعنى الدقيق، فقد بدأ بألحانه وكان يغني على المسرح كل ما يطلبه منه المشاهدين حتى وإن خالف المطلوب سياق المسرحية وقصتها. 

كان الشيخ سلامة حجازي أحد الرواد الأوائل للموسيقى المصرية، أوّل من لحّن الأوبريت الغنائي العربي

واستمرت محاولاته المسرحية حتى عام 1884، عندما ظهر التمثيل في مصر للمرة الأولى بشكل أكثر احترافية، ليصبح أول من أظهر تفوقًا في هذا المجال، حيث كانت مهارته في الأداء الغنائي سببًا في اجتذاب أصحاب المسرح له للغناء بين فصول الروايات المسرحية.

خلال مسيرته قدم سلامة حجازي العديد من المسرحيات لفيكتور هوجو وشكسبير وراسين وفولتير، كما قدم مجموعة من المسرحيات العربية منها صلاح الدين الأيوبي، والسر المكتوم، والظالم والمظلوم، والبخيل، وعظمة الملوك وغيرها من الأعمال، إلى أن توفي عام 1917.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الموسيقى المستقلة.. تذاكر تنتمي إلى اقتصاد السوق

محمد فوزي..أيقونة البهجة وصريع ثورة يوليو