كان أفراد العائلة الأفريقية الفقيرة يجلسون في هدوء وسلام، أمام باب كوخهم الخشبي المتواضع المحاط بمساحات خضراء، مفتوحة وشاسعة، يشقّها نهر تظهر في خلفية مداه شمس تتأهب للرحيل، بلونها القرمزي المنعكس على صفحة المياة ليمنحها لونًا دمويًا فيه من الهدوء والغموض بمثل ما فيه من الجمال والجلال.

أجسادهم تغطّيها خيوط رفيعة من القماش الملون، تتدلّى من آذانهم ومن أنوفهم إكسسوارات حمراء وزرقاء زاهية، منهمكون في صنع بعض الأواني المنزلية البسيطة من الخوص الملوّن. الصمت يسيطر على حالة الغروب الهادئ.

لا تظهر في الخلفية أصوات بخلاف أصوات زقزقة العصافير أثناء هجوعها اليومي إلى أعشاشها. على جانب الكوخ، ركية نار محفورة في الأرض، وفوقها آنية يتصاعد منها دخان ورائحة طعم العشاء. أطفال العائلة، بإكسسواراتهم وأسمالهم ووجوههم بألوانها الحمراء والزرقاء، متجانسون مع اللون الأخضر الغالب على الوسط المحيط بهم، يلعبون بشقاوة حقيقية وبراءة فطرية وسعادة في المساحة المفتوحة أمام الكوخ.

أما أنا فكنت أجلس أمام شاشة التلفزيون، غاطسة في كرسي وثير، أتابع تلك العائلة البدائية الفقيرة السعيدة الراضية المرضية وعلى وجهي نظرها ملؤها العطف والشفقة والرثاء لحال هؤلاء البشر البدائيين المساكين المنقطعين عن وسائل الحضارة والتكنولوجيا والكبيوتر والهواتف الذكية والكهرباء والديناميت وآخر ما توصلت إليه البشرية من أحدث أنواع أسلحة القتل والتدمير.

ارتديت ملابسي، وخرجت إلى الشارع المسفلت والممهّد. بعد اختبار تجربة تحرّش معتادة من أحد الهائمين على وجوههم في الشوارع لاستلقاط أي أنثى تصادفه، وصلت إلى محطة الأتوبيس. كان الناس يقفون على أرصفة المحطة وبين الأتوبيسات مستهلكين تمامًا، الجميع يقطب ما بين حاجبيه ويعلو قسمات الوجوه المغبرة جزعٌ غاضب مشترك، تبدو أسبابه مواراة خلف تفاصيل يوميات التعب والبحث الأبدي من أجل حياة أفضل. نظرت إلى السماء، أو بالأحرى حاولت النظر إلى السماء، فكان عليّ أن أخطو مسافة للابتعاد عن العربات المتراصة في المحطة لأقف على ناصية الطريق وأتمكن من رؤية اللون الأزرق على اتساعه.

بإنزال العين ببطء إلى الأسفل، تبدأ كتل الإسمنت في الظهور واحتلال الكادر. إنها البيوت، مكعبات وصناديق يعلو بعضها البعض على هيئة بنايات وعمارات وأبراج وناطحات سحاب تعدّ هي النموذج الأمثل لآخر ما توصّلت إليه حضارتنا الإنسانية تعبيرًا عما يليق بنا التحوصل بداخله. هؤلاء المنتظرون لأي أتوبيس أو ميكروباص، أو مترو، أو أي كتلة معدنية صدئة تمشي على أربع عجلات لتوصلهم إلى مكعبات الإسمنت التي يقطنونها، هؤلاء المنتظرون القافشون الغاضبون الواضعون موبايلاتهم على آذانهم طوال الوقت، كبديل كامل ونهائي عن التحدث وجهًا لوجه مع بعضهم البعض، هؤلاء العائشون في قلب الحضارة بجوار تراث الأسلاف العظام دون محاولة منهم لإحيائه، هؤلاء الذين نلتقيهم يوميًا في مساراتنا المتقاطعة مع دروب السعي والاكتشاف.. هؤلاء جميعًا كانوا لا أحد.

كنت أسير وسط كل تلك الجموع وكل هذا الإسمنت وكل هذه الأجسام المعدنية، تظللني سحابة غربة وغرابة، وحين عبرت إلى الجهة الأخرى من الشارع ووقفت أمام النيل، رأيت تلك العائلة الإفريقية. كانت هناك، في المدى، جالسة في ظل شجرة على سطح النيل، تستضيء بالقمر وأحد الأطفال ينظر لي بابتسامة جعلتني أبكي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في العطش الأخير

ضوء خافت في عتمة الكون