02-فبراير-2016

من الثورة اليمنية 2011 (Getty)

تشبه اللحظة التاريخية التي رافقت خروج الناس بأعداد غفيرة قبل خمسة سنوات، في بعض أقطار الوطن العربي، إلى شوارع المدن الكبرى، للإطاحة بالأنظمة الاستبدادية التي كانت تتربع على سدة السلطة السياسية، لحظة أحداث الثورة الفرنسية التي اجتاحت شوارع باريس، والتي كان الناس فيها مأخوذين بفكرة تأسيس مفهوم جديد للسياسة يقوم على نظرية العقد الاجتماعي، حيث كل واحد منهم هو فرد صاحب إرادة حرة له حق المشاركة في اختيار الأشخاص الذين سوف يتولون إدارة شؤون حياته اليومية، استنادًا إلى نوع من الحكم الرشيد، مع إمكانية احتفاظه بحق مراقبتهم ومحاسبتهم والإتيان بأناس أكثر كفاءة ونزاهة وعقلانية منهم، كل ذلك وفق قوة الصوت الانتخابي الذي يمكن له أن يحدث فرقًا.

أطاح تدفق الناس إلى شوارع الثورات بنظرية استقالة الشعوب العربية من مسرح التاريخ

أطاح تدفق الناس إلى شوارع المدن وساحات البلدات وأزقة القرى مطالبين بحريتهم بالتصورات الفكرية التي ما فتئ يرددها بعض المنظرين الثوريين عن استقالة الشعوب العربية من مسرح التاريخ، وخفوت نزعة الحرية في صدور أبنائها إلى درجة التلاشي، وتقبلها للعيش في كنف العبودية كما لو كانت قدرًا. كما أطاح هذا الفعل الجماهيري الهادر لمجموع المحكومين بالحديد والنَّار خطأ التصورات التي تبنتها أجهزة قمع عن قدرتها على ترويض هذه الشعوب في قبولها لوضعها العبودي إلى أبد الآبدين، واضعة إياها أمام الشعار العدمي "إما أن نحكمكم أو نقتلكم".

يمثل شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي رفعته الجماهير المنتفضة على مستبديها خلال حراكها السلمي، واحدة من الأفكار الكبرى لدخول العرب في ميدان الحداثة، فالحداثة ما هي إلا قطع مع قديم استنفد دوره التاريخي. فلأول مرة تمكنت الجماهير العربية العزلاء إلاّ من إرادتها الحرة من استرداد السلطة السياسية التي ظل الوصل إليها يتم عبر دوامة الانقلابات العسكرية التي حرص قادتها على تقديم أنفسهم كأبطال شعبيين ومخلصين عظام.

فيما كانت ممارساتهم اليومية في الحقل الاجتماعي والاقتصادي تقود إلى كوارث فعلية على رؤوس محكوميهم. أثبتت التجربة التاريخية عدم قدرة الانقلابات العسكرية العربية على أن تساهم في تحقيق نقلة نوعية اتجاه الممارسة الديمقراطية، ذلك أن الممارسة الديمقراطية تجعل من العسكر مجرد موظفين في بنية الدولة العامة، تنحصر مهمتهم الرئيسية في مهام الدفاع والسلم الأهلي، فيما هم يتنطحون للعب دور الزعماء المطلقي الصلاحية من أجل مضاعفة نهبهم الداخلي للناس الذين يدعون قيادتهم.

تميزت حركة الجماهير العربية في حراكها السلمي ضد أنظمة الاستبداد بأنها حركة ديمقراطية، كونها تمكنت من استقطاب طيف واسع من المتضررين المجتمعيين في صفوفها بغض النظر عن انتمائهم الأيدلوجي. فيما تمثلت حركتها الديمقراطية الأعظم عبر مشاركة المرأة في جميع أنشطتها، الأمر الذي يؤكد الطابع الحداثي لها، في كونها شكلت وما تزال مدخلًا مناسبًا للقطع مع قيم المجتمع الأبوي الذي ظل لوقت طويل يمانع في دخول المرأة إلى الفضاء الاجتماعي العام.

تميزت حركة الجماهير العربية في حراكها السلمي ضد أنظمة الاستبداد بأنها حركة ديمقراطية

لم تكن حركة الاحتجاجات السلمية التي شارك في تيارها العريض ملايين الناس عملًا ذا نزعة تدميرية، كما روجت السلطات الحاكمة عن المشاركين فيها. بل على العكس من ذلك فقد أظهر الناس في خضم أحداثها أعظم ما في دواخلهم من قيم إنسانية حية، كقيمة التضحية بالنفس من أجل الكل، كما أعادت تفعيل قيم التكافل الاجتماعي التي حاولت السلطات الحاكمة اجتثاثها من ضميرهم البشري. وأظهرت مقدار العمل الخلاق والمبدع الذي تمتلكه الطاقات الوطنية الشابة التي لم تتوقف السلطات العامة من هدرها وتوظيفها لصالحها.

الاحتجاجات الجماهيرية الكبرى التي شارك فيها الملايين من أبناء الشعوب العربية كشفت عن الطابع الثوري فيها، سواء لقدرتها على التخلص من أنظمة الاستبداد التي فشلت في تحقيق التنمية البشرية المستدامة لأبنائها، أو لقدرتها الرقابية في تحذير النخب السياسية من الإبطاء في تحقيق مشاريع التنمية التي وعدت بها ناخبيها. فلم تعد تقبل الجماهير بعد اليوم أن تمنح النخب السياسية تفويضًا بلا مدة ولا أفق ولا ملامح دون أن تتعرض للمحاسبة والنقد والعزل السياسي. إلا أنه ورغم القوة الدافعة التي أصبحت تمتلكها قوة الناس في الشارع، فيجب أن لا يغيب عن بالها إحداث القطيعة الشاملة مع النظام الاجتماعي القديم عبر ترسيخها لقيم الحداثة المتمثّلة بإعادة ترتيب العلاقة بين ذرا الحقيقة الثلاث: الإنسان والله والطبيعة.

اقرأ/ي أيضًا:

هل الربيع العربي من جلب الخراب؟

شباب ما بعد الربيع العربي