18-نوفمبر-2015

فندق برج العربي في دبي بالعلم الفرنسي تضامنًا مع ضحايا هجمات باريس (Getty)

في البداية والنهاية التضامن خيار شخصي، ومكمن قوته اليوم هو في إفراطه بالفردية رغم أنه سلوك منطو على قيمة جماعية، أو يبدو كذلك، ولذلك أيضًا كان الجدل بشأنه في المساحات العربية والعالمية صاخبًا ولكن هزلي وساخر بشكل كبير، فلا يمكنك أن تمنع أحدًا من التضامن مع أية فئة أو جهة يريد، كل ما يمكنك فعله هو انتقاده أو السعي لإظهار تناقضه. ولكن المهم هنا هو التفكير قليلا بالتغير السريع الذي يطرأ على التضامن عربيًا وعالميًا. هنا ملاحظات بسيطة حول الحالة المتكشفة في الأيام الماضية:

التضامن كترف

التضامن خيار شخصي، ومكمن قوته اليوم هو في إفراطه بالفردية رغم أنه سلوك منطو على قيمة جماعية

فكرة الترف هنا آتية من اعتبار التضامن فعلًا يحتاج لظروف محددة ولا تتوفر لغالبية البشر، بل هو ناشئ عن ظروف لا تحصل إلا لقلة من البشرية، وعلى رأسها "وقت الفراغ"، ويعني فائض وقت وطاقة للتضامن. خاصة في مرحلة تكثر فيها القضايا التي تحتاج لتضامن، لم يعد الأمر عفويًا بسيطًا، صار يحتاج متابعة وجهدًا ووقتًا وكلفة. ببساطة صار يحتاج نوعية محددة من الناس لديها فائض وقت وطاقة يمكنها ممارسة التضامن خلاله. بديهي هنا أن المتورطين بقضايا تستنزف حياتهم ووقتهم، الضحايا أو المسحوقون في طبقات اجتماعية دنيا، لن يكونوا من المتضامنين. ولعل الدلالة المعبرة هنا هو ظهور التضامن بأشكاله الحديثة في المجتمعات الغربية والأوروبية، حيث هنالك فائض من الوقت والطاقة والمال للتضامن.

التضامن كمؤشر على الطبقة والذوق

يتحول التضامن، مع تضخمه وانتقاله إلى مستوى رمزي افتراضي أكثر منه عملي محسوس، إلى إشهار هوية وانتماء وجزء من الوضع الثقافي والذوقي. من الطريف هنا أننا قد نتخيل من هم أصدقاؤنا المتضامنون مع قضية ما قبل أن نرى تضامنهم، هذا الأمر عائد إلى أننا نصنفهم في موقع ثقافي واجتماعي يستدل من خلاله على تضامناتهم المفترضة، وفي الوقت نفسه تصبح التضامنات لدى الطامحين إلى ذاك الموقع الاجتماعي والثقافي إثباتًا مستمرًا يطمحون أن يستدل المجتمع والمتابعون من خلاله على انتمائهم إلى تلك الفئة أو الطبقة أو غيرها.

اقتصاديات التضامن

على صلة بكون التضامن دليل انتماء أو رغبة بانتماء إلى فئة أو طبقة أو حالة، هنالك وجه قهري للقضية متعلق بتوسع شبكات العمل والمنظمات العابرة للقارات، وتشكل مؤسسات تعمل فيها نخب وبيروقراطية عالمية، تحديدًا قطاعات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والجمعيات الدولية وغيرها، وهذه تفرض ولو دون وضوح ولا إشهار متطلبات على المنتسبين لها، أو الموجود داخل هذا المجتمع المعولم، هنا يدفع أو يندفع كثيرون للاتساق مع عادات هذه النخبة وقضاياها وانشغالاتها وتضامناتها، وهؤلاء متصلون بشبكات محلية تابعة أو ممولة أو مستفيدة من هذه الجهات الدولية، ويتصل بهم مئات الآلاف من الموظفين والمتطوعين والمستفيدين من برامجهم ومشاريعهم، وعلى الأقل هم أصدقاء على فيسبوك. 

يتحول التضامن، مع انتقاله إلى مستوى رمزي، إلى إشهار هوية وانتماء وجزء من الوضع الثقافي والذوقي

هذا الاتصال الشبكي يجعل قضايا النخب المعولمة بطريقة أو بأخرى قضايا هم معرضون لها مع شعورهم بوجوب اتخاذ موقف حيالها، تصبح فرنسا وإشهار التضامن معها شأنًا يتعلق بشاب مستفيد من برنامج فرنسي لبناء بئر مياه في قرية نائية في أي قطر عربي. ووسائل الاتصال الاجتماعي تزيد من توسع الشبكة وتورط كثيرين بمنطقها وتأثرهم بفعل الآخرين أو اضطرارهم للفعل. وفي أحيان كثير يغدو التضامن وسيلة للحفاظ على مكتسبات في هذه الشبكات أو طمعًا في مكتسبات أكبر داخلها.

التضامن والحتمية الافتراضية

أكثر سؤال طرح في الأيام الماضية هو "لماذا تتضامن مع هؤلاء ولم تتضامن مع غيرهم؟" وهذا السؤال متورط بالحتمية الافتراضية التي تعني أن ما تفعله أو ما تشعر به غير موجود ولا معترف به ما لم يظهر في الفضاء الافتراضي. وبالتالي أنت مضطر لإشهار تضامنك في المساحة الافتراضية حتى يقتنع الناس أنك متضامن، أنت مضطر لنبذ الإرهاب مع كل حادثة على فيسبوك لتكون نابذًا للإرهاب، ولو نبذته في حالة واحدة فهذا لا يكفي بل قد يدخلك في داومة، تستلزم مواقف وإشهارات مستمرة مع كل حالة جديدة.ولعل طريقة فيسبوك في اختراع تعبيرات متعددة ومتنوعة عن التضامن هو أكبر دليل على تحولات التضامن الافتراضية وتعقّده، وجذب النقاش دوما إلى الجوهر الافتراضي للتضامن أكثر من أي شيء آخر.

التضامن على حساب الفعل

اللافت اليوم هو انقلاب منطق التضامن إلى جانب توسعه، فالأصل أننا نتضامن مع ما لا يقع ضمن دوائرنا وقضايانا الخاصة، فحيزنا الخاص وقضايانا الخاصة لا بد أن نفعل حيالها الكثير والأهم من التضامن، ونترك التضامن لتلك القضايا البعيدة والعامة جدًا.

الأصل أننا نتضامن مع ما لا يقع ضمن دوائرنا الخاصة، فحيزنا وقضايانا لا بد أن نفعل حيالها الكثير

وهذا ما يجعل المشهد ملتبسًا حين ينشغل لبناني بسؤال التضامن مع برج البراجبة وباريس، نجده وهو يعيب على الآخرين تضامنهم مع باريس أكثر من برج البراجنة، يحول علاقته مع برج البراجنة لعلاقة تضامن أيضًا، صاخبة وقوية ولكنها في النهاية لا يمكن أن تقارن بالفعل والدور الذي يمكنه فعلًا فعله حيال قضيته.

الطبيعة المتضخمة للتضامن

مهم والحال هذه الانتباه إلى أن كل هذا الصراع والجدل حول التضامن يزيد من توهمنا حول أهميته وقيمته وأثره، وبعد ذلك الاكتفاء به والنظر إليه كفعل كاف ومساهمة وافية حيال ما يجري حولنا. ومع تحول التضامن إلى فعل مستقل بذاته وتوسعه ليكون نشاطًا منفصلًا ومحددًا، يتلاشى مع الوقت التساؤل عن أثره وجدواه وعلاقته بالموضوع الذي نشأ التضامن بسببه أو على خلفيته، يغدو التضامن هو الموضوع والفعل والسياق دون أي شيء خارجه أو يدل عليه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مباراة السعودية وفلسطين.. اللعب بالبديهيات

فصائل البريد الإلكتروني