28-أغسطس-2022
كاريكاتير لـ بيت كرينر/ أستراليا

كاريكاتير لـ بيت كرينر/ أستراليا

يعرض يوتيوب على مشاهده أن يتمتع ببث للفيديوهات من دون إعلانات. لكن المعلن الذي يحرضنا يوتيوب على تجنب مشاهدة إعلاناته يدفع لـ يوتيوب لقاء عرض إعلاناته علينا. يوتيوب يعرف أننا لا نحب الإعلانات، تضجرنا وتزعجنا، وأحيانًا نندفع دفعًا إلى تجنب شرائها لمجرد أنها لا تكف عن ملاحقتنا لسبب أو من دون سبب. والأرجح أن المعلن نفسه يعرف أنه يضايقنا ويزعجنا بإعلاناته. مع ذلك ما زال المعلن يدفع لـ يوتيوب لقاء بث إعلاناته، وما زال يوتيوب يحرضنا، نحن الذين تتوجه لهم الإعلانات، بتجنبها لقاء مبالغ مالية. والحال، نحن نتعرض لابتزاز لا معنى له. ابتزاز يعرف ممولوه أنه لا يفيدهم بشيء. المعلنون يدفعون لإزعاجنا، ويوتيوب يتقاضى منهم أموالًا لقاء إزعاجنا، ولا يفعل سوى ابتزازنا لنتخلص من هذا الإزعاج.

علينا أن ندفع من أموالنا لنتمتع بجهلنا بما يجري حولنا. ويجدر بالمعلن الذي يحاول تعريفنا بمنتجه أن يدفع من أمواله من أجل أن نمتنع عن تجنب مشاهدتها

المعادلة تكاد تكون عصية على الفهم: علينا أن ندفع من أموالنا لنتمتع بجهلنا بما يجري حولنا. ويجدر بالمعلن الذي يحاول تعريفنا بمنتجه أن يدفع من أمواله من أجل أن نمتنع عن تجنب مشاهدتها. ويوتيوب الذي يتقاضى أموالًا منا ومن المعلن، يعلن بصفاقة قل نظيرها أن الإعلانات المدفوعة تفسد متعة المشاهدة وقد تفسد المحتوى. إذًا، ما الذي يجبر المعلن على الدفع ما دام يوتيوب يستخدمه كوسيلة ابتزاز مالي للمشاهدين؟

عالم الإعلانات اليوم بات معقدًا جدًا. المعلن على الأرجح لا يريد أن يعرفنا بالمنتج الذي يريد تسويقه. إنه، على الأرجح، يريد أن يثبت لنا سلطته التي لا ترد على يومياتنا. وإذ ينجح في إثبات هذا الأمر، فإنه يرسخ في أذهاننا بوصفه مبتزًا، لكننا قد نحتاجه في وقت من الأوقات. تمر إعلانات شركات التأمين الكبرى على شاشات التلفزيون وقنوات البث على شبكة الإنترنت، لا لتقول لنا شيئًا، ذلك أنها ليست سوى هراء محض. بل لتبلغنا أنها تتسيد على عالم التأمين، وهو عالم يتسع ويتوسع، وشيئًا فشيئًا سيصبح حاجة للبشر كحاجتهم إلى الهواء. ومن ينجح في إزعاجنا أكثر قد يحظى بانتباهنا حين نحتاج إلى خدمته. وعليه، ثمة علاقة تنشأ بين المشاهد والمعلن، تتلخص بالتالي: عليك أيها المشاهد أن تتجنب ما أمكنك شراء خدماتنا، لكن الحياة التي تعيشها لن تلبث أن تفرض عليك خدماتنا المكلفة، وفي هذه اللحظة بالذات عليك أن تتذكر من هو الأكثر صلافة والأشد تبجحًا في حضوره لكي تطلب خدمته. هكذا تحول المعلنون الكبار إلى شبكات أمان للمواطنين، يشبهون في ضرورتهم ضرورة شرطة السير وإشارات المرور، الذين لا يفعلون سوى إزعاجنا وتأخيرنا عن مقاصدنا لتمكين آخرين، متأخرين عن مقاصدهم أيضًا، من التقدم خطوة باتجاهها. شرطة السير ضرورية ودورها حيوي في العالم الذي نجد أنفسنا مجبرين على التنقل فيه، والمعلنون ضروريون ودورهم حيوي في العالم الذي نجد أنفسنا مجبرين على التعامل معه وقضاء بعض الوقت فيه. أما أوقاتنا الخاصة في جحورنا المسورة، فيفترض أن تبقى بمنأى عن هؤلاء الدخلاء. وحين يقتحمون عزلاتنا هذه نحاول تجنب خطابهم ما أمكننا. لكننا في نهاية المطاف سنلجأ إليهم، سواء كنا نريد أن نغسل أثار العالم الخارجي من جحورنا المعزولة، أو نتهيأ لتلويث العالم الخارجي بأثارنا.