هناك، على إحدى أطراف المدينة تقع قريتي، بيوت كصناديق مختومة تسكنها الخواطر، طرق ترابية متعرجة حيث خطى المارة، طرق باتت مهجورة ومنقوشة بحفر النمل، الجميع هاجر بعيدًا إلا عدد قليل من العجائز وبعض النسوة، عجائز يمددن أيديهن إلى أطياف ذويهن المسافرين، يتدفأن غبارهم، يتوسدن حرير الفراغ، أرى نفسي مثلهن، اتكأ عكازة الذاكرة وألمهم. 

أجالس همهماتهم في إحدى أطراف ذلك المرج، أتأمل تفاصيل تلك العجوز وهي ترثي حظها العاثر. تكز بأسنانها البارزة والمنخورة غيظًا على رحيل أبنائها الخمسة، تخاف أن تواري الثرى يومًا دون أن تحظى بقبلة أخيرة منهم، أرى أطياف أولادها تنبعث من رماد وحشتها. 

أراقب الهمسات السريعة لتلك العجوز الأخرى، تسابيح تخرج من تلافيف قلقها، أتمعن بألم أصابعها المرتجفة والمنمشة، وهي تلف مسبحتها باضطراب، أخبرتني أن الساسة سبب الحرب وهجرة ابنها الوحيد، كنت أجلس على الجانب الملاصق من حزنها، أبدو ضعيفة للغاية، لا يمكنني أن أمدها بأمل يرميها خارج عزلتها، أو أستعير بعضًا من وحشتها المرسومة في خطوط وشمها على جبينها المقطب، كان ابنها الراعي الوحيد في القرية، له تجارب جمة في عراك ذئاب كانت تبدد هدوء خرافه. 

عجزة غارقون في جحيم ذاكرة ذويهم وباقون على قيدها. أحرقت ناظري بحثًا عن أياد خفية لي لأمحو أعقاب الرحيل، أمسح كل شيء كما تبتلع رائحة السنابل الرحبة الأفق. كلما خططت لصراخ رافض أتوقف مترددة بلا حراك، أعدل عن ارتكاب رغباتي الغاضبة والمرتعشة، يخمدني رهاب ملامحهم المتعبة والمستسلمة، أقعد لصق عزلتهم الحالكة، أراهم في حالة دائمة بانتظار ضيف شبحي ما. 

من حقي أن أكره تلك الجداول المطرية الغزيرة (الممالك الهشة لبعض الكائنات)، مجار باتت تكسوها حكايات قديمة، من حقي أن أمقت رائحة الحبق حين تفقد المعاني شكلها، أرى محيطي عديم الملامح، ليس للطبيعة خطايا، المشكلة في خبايا ناظري والخواء. هناك، على طرف ما من قريتي لا تزال الذئاب يقظة، وقع أقدامهم تحتل مآثر الغياب وتحل محله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نسيتُ معطفي في دمشق

جثة قوس قزح