30-أبريل-2018

إملي نصرالله

سوف تظلُّ تجربة الكاتبة اللبنانيّة إملي نصرالله (1931 – 2018) محلَّ استعادة ونقاش دائمين. ذلك أنّ ابنة الكفير، المولودة في قرية كوكبا جنوب لبنان، فتحت في أعمالها الأدبيّة آفاقًا جديدة للرواية النسويّة اللبنانيّة، بعد أن نبشت بجرأة ونزاهة القاع السلفيّ للريف اللبنانيّ، مُزيحةً بذلك اللثام عمّا أُهمل وأُسقط من الصورة النمطيّة السائدة عنه. هكذا، وجدت الصحافيّة الشابّة نفسها إزاء أراضٍ سرديّة بكر، شرعت في حراثتها في روايتها الأولى "طيور أيلول" (1962) التي شرّحت وفكّكت فيها بنية المجتمع الريفيّ، كاشفةً عن حياة مواربة تدور خلف الأبواب المغلقة هناك.

رغم انشغالها العلنيّ بالريف اللبناني، لم تُسقط إملي نصرالله المدينة من مدوّنتها الأدبيّة

في روايتها هذه، والتي أخرجتها من الفضاء الصحافيّ المغلق لتضعها تحت أضواء الفضاء الثقافيّ العام، لجأت نصرالله إلى استعادة الماضي كعتبة أولى لكتابة الحاضر، ذلك أنّ الأخير قائمًا على الأوّل، ويشكّل امتدادًا له أيضًا. بالإضافة إلى أنّ استعادته تُفسّر على نحو عميق ما آلت إليه حال المجتمعات الريفيّة التي ظلّت عصيّةً على الحداثة. هنا، تأخذنا صاحبة "شجرة الدفلى" (1975) إلى لحظة هاوية بين عالمين: الريف والمدينة. لتضعنا أوّلًا إزاء أمكنة هامشيّة يسيرُ سكّانها وفقًا لموروثات شعبيّة تُطيح بمحاولات تحديث شكل الحياة فيها. وعلى هذا الأساس، تصف الكاتبة مدى سطوة هذه الموروثات على الانسان الريفيّ بشكلٍ عام، والمرأة على نحوٍ خاصّ.

اقرأ/ي أيضًا: وسام ألمانيّ للكاتبة إمِلي نصرالله

هكذا، نكتشف القسوة التي تتّسم بها حياة المرأة في الريف، والبؤس الذي أرخت تلك الموروثات بظلاله عليها، والخطوط الحمراء التي رُسمت من حولها، وأحلامها المؤجّلة في الحب والحياة والتعليم. وإذا بنا أمام نساء راضخات تحت ضغط مطارق السلطة الذكوريّة، تلك التي تُحدِّد قيمة المرأة وفقًا لأعداد الذكور الذين أنجبتهم.

رغم انشغالها العلنيّ بالريف اللبناني، لم تُسقط صاحبة "الإقلاع عكس الزمن" (1991) المدينة من مدوّنتها الأدبيّة، إذ أنّها تُمثّل النقيض للمجتمعات الريفيّة المنغلقة على نفسها لجهة الحداثة والانفتاح والإطاحة بالموروثات الشعبيّة. وعلى الرغم من ذلك، لم تصوِّر الكاتبة المدينة مكانًا مثاليًا للحياة، بل مكانًا يستهدف هويّة سكّانه محاولًا نزعها وطمسها قبل أن يوغل عميقًا في تغريبهم. هكذا، كوّنت نصرالله مسبقًا صورة تقريبيّة لما سوف تصل إليه الحداثة بنا، لجهة الهوية وجذور الانسان الأولى، الأمرين الذين شغلا مساحاتٍ واسعة من أعمالها الروائيّة اللاحقة، إلى جوار قضية المرأة وحقوقها. بالإضافة إلى الحرب الأهليّة التي أطاحت ببعض يقينيات الكاتبة وشكّلت أخرى جديدة. ناهيك عن أنّها مارست جهرًا ما تُمارسهُ المدينة في الخفاء من ناحية طمس الهوية واقتلاع الجذور.

في كتابها الأخير "الزمن الجميل" الذي صدر قبل أيام قليلة من وفاتها في آذار/ مارس الماضي عن دارهاشيت أنطوان - نوفل، 2018، تستعيد محطّات أساسيّة في حياتها الصحافيّة بوصفها تمهيدًا وعتبة أولى لما سوف تصل إليه لاحقًا.

الزمن الجمي

تضعنا نصرالله إزاء مشاهد متفرِّقة ترسم من خلالها بشكلٍ غير مباشر صورة تقريبيّة للبنان في حقبة الخمسينيّات من القرن المنصرم، قبل أن تطحنه الحروب الأهليّة والطائفيّة. وعلى الأرجح، فإنّ هذا ما قادها إلى عنوان الكتاب، ذلك أنّ ما تستعيده لا يبدو مجرّد إيقاظ لذكريات مضت بقدر ما هو رثاء لزمنٍ جميل مضى دون رجعة.

نتعرّف في هذا الكتاب إلى إملي نصرالله الصحافيّة؛ نكتشف شغفها بالأدب الذي شغل حيَّزًا واسعًا من تقاريرها الصحافيّة لجهة اللغة والأسلوب، وإذا بها تلتقط الخيوط الأولى لروايتها "طيور أيلول". هنا، تكشف لنا الكاتبة أنّها كتبت روايتها هذه سرًّا في غرفة مكتب منحتها إياها إحدى صديقاتها، بعد أن فشلت، ككلّ الكاتبات، في إيجاد مكان مناسب للكتابة. تجيء الكاتبة على ذكر هذا الأمر للفت الانتباه إلى معاناة المرأة إزاء الأمكنة والعائلة والعمل والكتابة، وصعوبة الجمع بين كل هذه الأمور والقيام بها في وقت واحد.

بعد ذلك، تحيلنا مؤلفة "الطاحونة الضائعة"، 1985 إلى مغامراتها الصحافية. سوف تسرد لنا هنا تفاصيل لقاءها بالملكة فاطمة السنوسي أثناء زيارتها إلى لبنان، مُحقِّقةً بذلك سبقًا صحافيًا هو الأوّل من نوعه آنذاك، قبل أن يُسرق بفعل عدّة أخطاء لم تتفاداها الكاتبة والمصوّر الذي رافقها سرًّا ليلتقط خلسةً صورًا للملكة. وفي واقعة أخرى، تأتي نصرالله على ذكر بصّارة شهيرة ذاع صيتها في لبنان لقدرتها الفعليّة على قراءة أفكار الآخرين، وبما فيهم نصرالله نفسها التي حاولت لقاءها بوصفها امرأةً عادية جاءت لتقرأ لها مستقبلها، مصطحبةً معها زميلها في مجلّة "الصيّاد" جان مشعلاني الذي كان عليه أن يحفظ ملامح المرأة من أجل رسمها وارفاق الصورة مع التقرير الذي كانت تنوي اعداده، قبل أن تُطيح قدرات تلك المرأة بأفكار الاثنين معًا، إذ تكتشف ما كانت إملي تُخطِّط له.

تفرد إملي نصرالله في كتابها هذا مساحاتٍ لاستعادة لقاءاتها بشخصياتٍ ثقافيّة وسياسيّة مختلفة. ها هي إذًا تتحدّث عن لقائها خالد العظم، وزير الدفاع السوريّ في عهد الرئيس شكري القوتلي، وعفيف البزري، قائد الجيش السوريّ آنذاك، والذي مهّد للقاءها بالرئيس القوتلي نفسه. هنا، سوف تنتقل المؤلّفة إلى الحديث عن نساء رائدات في لبنان، لنتعرّف إلى الأديبة اللبنانيّة إملي فارس ابراهيم، وابتهاج قدورة، ورائدة الريف. بالإضافة إلى مغنية الأوبرا سامية الحاج، وعازفة البيانو ديانا تقي الدين، وراقصة الباليه فاليري صرّوف.

في "الزمن الجميل"، ثمة كاتبةٌ تمضي بشغفٍ وحنين في استعادة ذكرياتٍ تختم بها مسيرتها الأدبيّة قبل أيام قليلة من نهاية حياتها

في فصولٍ أخرى من الكتاب، تتحدّث عن زملائها في مجلّة الصيّاد استكمالًا لتوسيع تلك الصورة التي كونّها الكتاب في أذهاننا عن لبنان الزمن الجميل. سوف تبدأ برسّام الكاريكاتور خليل الأشقر، مرورًا بالشاعر سعيد عقل، والكاتب مارون عبود، وأخيرًا الشاعر يوسف الخال. وإذا بهذه الاستعادات تضعنا إزاء حياة ثقافية صاخبة اتّسمت بها تلك الحقبة من تاريخ لبنان.

اقرأ/ي أيضًا: رحيل إملي نصر الله.. صوت الريف اللبناني

ها هنا إذًا كاتبةٌ تمضي بشغفٍ وحنين في استعادة ذكرياتٍ تختم بها مسيرتها الأدبيّة قبل أيام قليلة من نهاية حياتها. متجوّلةً بنا في عوالمها الشخصيّة التي تُعزّز حضورها رسومات الفنّان اللبنانيّ جان مشعلاني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ربيع جابر.. الفتنة البيروتية

جبور الدويهي.. حميمية السرد