17-نوفمبر-2022
لوحة لـ جورج براك/ فرنسا

لوحة لـ جورج براك/ فرنسا

أجلسُ إلى طرف صوتي لأسمعني أتحدث إليكِ ببحة تحاول أن تجانب الجزع. هي، وإن تشتدُّ مرارًا أو تخفت تكرارًا، جرحٌ لا يسعه أن يبرأ أبدًا. جرحٌ يعوي كذئب وحيد في وجه القمر.

تسألين يا صديقتي عن اللغة، عن الفصحى تحديدًا، كم مر من الزمان عليها؟ وكم ستضيعنا اللغات الأجنبية ونفقد صوتنا في التلعثم المحقق؟

لستُ أعرف بأيهما تعلّمتُ أكثر، أتكون الإرادة هي التي جعلتني أتهجأ الحروف وأتعلم الأصوات وأشكال الكلمات من جديد، أم تراه الخوف؟ كلّما تحدثتُ الألمانية فكّرتُ بلساني، شعرت بالهواء وهو يخرج من فمي لاسعًا المعنى كأفعى، الغريب أنه لم يحدث وأن فكرت قط، ولو لمرة واحدة، واحدة فقط، بقلبي.

هذا جعلني أصنع حكمتي الخاصة: ليس من وحشة لم تصنعها اللغة أو غربة ليست من ضيق الكلام.

هل علينا حقًا أن نتحدث عمّا فعلته بنا البلاد؟ عن الجراحات والعجز والتشرد والجوع والرعب والدم والموت والجثث والأشلاء؟ أن ننبش الماضي فتفوح رائحة الحرب من جديد؟ ثمة أشياء من الأفضل أن تترك دون مس، فهي كأنما تتكالب كلما حاولنا الاقتراب منها. هكذا هي ذاكرة الحرب.

سنعيش وسنموت ألف مرة دون أن ننسى، ودون أن نعرف يقينًا كيف ترك الموت غباره في محاجر العيون.

في هذه البلاد، أعني البلاد الجديدة، أنا لا أنافس شيئًا ولا حتى بعوضة. إنما لي معارك كثيرة تبدأ مع العثّ الذي غزا مطبخي. فأتعلم من جارتي الألمانية، أنني ابنة البلاد الجافة، أخطأتُ في حفظ المكسرات والبرغل والتوابل، لجهلي بمناخ الصيف الرطب هنا. ولا تنتهي، معاركي هذه، بمحاولاتي أن أتلّمس طريقي كلما تنفس الصبح.

كيف حالكِ أنت؟ أما زالت ملامحك تتكسر في البحث عن حضن تدفنين رأسك فيه، وإن لم تجديه، تمزقين وجهك بالشرود؟ أما زلت تبكين في طرفة عين كُلّما انقبض صدرك في مواجهة القبح أو الجمال، وما زال قلبك كحبة قمح طري، تنبت في كيس خيش رطب يُبرِّد خابية ماء؟

لن أخدعنا، لن نقلق وحسب، بل سيمر وقت نكون فيه قلق هذا الزمان كله. ووقت آخر ننام فيه بعيون مفتوحة على الخواء، على كل ما يلتهمنا من الداخل، يقضم أطراف قلوبنا كتفاحة أو يغرز أظافره في جسد أملنا الهزيل.

ما هو البؤس يا صديقتي؟ لا تساعدني اللغة ولا الاصطلاح في القبض عليه كله. فأنا ما زلتُ لا أفهم معنى ما يقال في وجهنا، كلما صفعتنا الحياة كما تصفع الأمهات مؤخرات الأطفال فتقول الجدات: "لا بأس".

ونحن ما الذي جنيناه من شدّة البأس؟

هذا الصباح، انتحر عصفور على شباكي، سمعتُ صوت ارتطامه بالزجاج، ذاك الصوت، قلت لنفسي: "أعرفه". كان يشبه صوت ارتطام أحلام كنتُ قد أطلقتُها. ستقولين: "ما كان إلا يطير فاصطدم بالزجاج النظيف بمحض الصدفة أو سوء الحظ". أما أنا فأريد أن أصدّق أنه انتحر. هكذا أفهم معنى البؤس، فلا أعرّفه ُبنقيضه. وهكذا يتدفق البؤس من حنجرتي كلما شرحته: "هو أن نعيش في عالم تنتحر فيه حتى العصافير".

أفكر في اقتباساتي المفضلة عن الوقت. يطل أحدها برأسه "الوقت يضطهد الجميع".

إذًا كيف لا ننتبه للزمن؟ نحن وإن كنا لن نختلف حول زمنه كما فعل الفلاسفة من قبل، فلا نسأل قديم أم حديث ولكن لا يمكن لنا أن نتجاهله وهو يلذع أفئدتنا بطرف جمره دون أن يُبرّد.

أي تشبيه بليغ يليق بهذا العملاق "الزمن" هذا السائل، الصلب، الهارب، الضباب، الجارح، الحاد، اللين، الشفاف؟

ونحن ما نكون نحن إن لم تحرقنا ألسنة الزمان؟

ماذا أفعل في يومياتي؟ ما زلتُ أحاول أن ألتقط أنفاسي، ست سنوات ونيف وما امّحى أثر الفزع الذي تركته البلاد على حواسي. شيء ما يُقْطَع في جوفي كلما حاولت أن أصل، كلما حاولت أن أقترب أو أن أرسم خطًا بيانيًا لخوفي. هذا الخوف ليلٌ يعميني كلما سجى، غول يلتهمني كلما جاع في العالم طفل.

كيف أُهدّئ من روعي وأنا إنما أهلع كلما سقطت في السماء نجمة، أو رف بقربي طائر بجناحه؟ وما تبرح تفزعني حتى يد صغيرة تلوح من بعيد أو ذرة غبار تحط على رمشي.

ستتلو العزلة آياتها على وجه صمتنا في حضرة الناس وفي غيابهم. ستبلغ مئة عام وتزيد حتى يلتوي القلب من شدة ما افتقر إلى الانتماء.

تسألين اليوم عن حالي؟ عن أي حال سأخبر، ما مرّ، ما هو قائم، أم ما سيأتي؟ مر وقت طويل لم تكوني فيه يا صديقتي، فكيف أجسره؟ كيف أشرح لك المرار؟ كيف نشرح الطعم؟ لقد تواطأنا جميعًا على إطلاق صفة لشيء سبق أن تذوقناه. فنقول: هذا حلو، هذا مالح، هذا حامض، هذا مر. لكن هل كنتِ ستعرفين ما أعنيه إن لم تجربي هذه الطعوم؟

للأيام طعم لا تشرحه صفة مُر وحدها.

شيء ما يفلت منّي كلما حاولت أن ألتقطه، سأسميه فرحي. شيء ما يعود إليّ كلما أطلقته، أسميته حزني. هكذا أفهم تشابهنا أنتِ وأنا.

أريد أن أربت على كتفك فأقول: "سيكون كل شيء بخير" لولا أن سحابة قاتمة تمر في بالي الآن، فيصيبني الخرس.

أريدك فقط أن تعلمي أنه ليس في قلبي، وكلما مرت تلك السحابة أيضًا، إلا أمنية بأن تصنعي طريقك، وعلى طريقتك، طريقك الذي تكونين فيه بخير.

أما الآن يا صديقتي فقد ثقلت جفوني، أريد أن أغفو، على أي شيء سأغفو، صدر، ذراع، وسادة، أرض أو شفرة سكين.