21-مايو-2019

إفطار المشاركين في اعتصام القيادة بالخرطوم (أ.ف.ب)

رمضان في السودان ليس شهرًا مقصورًا على العبادات فقط، وإنما مناسبة خاصة لتفعيل قيم وعادات مجتمعية، مثل "احتلال الشوارع" والإغداق على المارة بالأطعمة والأشربة، والمبالغة في الكرم، إلى درجة التطرف أحيانًا!

تحولت إفطارات الشوارع في السودان إلى برنامج دائم في رمضان لا تكاد مدينة أو قرية تخلو منه باعتباره عادة متوارثة

تحولت عادة إفطارات الشوارع في السودان إلى برنامج دائم في رمضان، لا تكاد مدينة أو قرية تخلو منه، باعتباره عادة شعبية متوارثة، إذ يحرص الرجال على حمل الصواني إلى الخارج، وهجر المنازل، عدا النساء، في وقت الإفطار.

اقرأ/ي أيضًا: "قطع الطريق".. كرم سوداني فريد في رمضان

وكلما ابتعدنا عن العاصمة الخرطوم، بدا احتلال الشوارع والطرق الرئيسية أكثر أصالة، تحديدًا شارع الخرطوم مدني، الذي يربط العاصمة بولاية الجزيرة وسط السودان. يصطف فيه الصائمون بالمئات على المفارش، ساعة قبل موعد الإفطار، إلى حين صلاة التراويح، في المناطق الفقيرة والميسورة على حد سواء.

توقيف السيارات.. ولو بالقوة!

اشتهر مواطنو ولاية الجزيرة تحديدًا بإغلاق الطرق بالأجساد البشرية، وإجبار السيارات على التوقف، بل تحطيم زجاج السيارة أو تعطيلها في حالة عدم انصياع المارة إلى توجيهاتهم! وهي المهمة التي يجد فيها بشرى الخير نفسه بشدة، فمنذ صغره كان والده في قرية المسيد (50 جنوب الخرطوم) يحثه على حمل أواني الطعام والشراب، ووضع المتاريس على الأسفلت حتى لا تتمكن السيارات من العبور في ساعة الإفطار، ويفوتهم نيل البركات وأجر الصائم.

رمضان في السودان
توزيع الطعام على السيارات في شوارع الخرطوم

 يقول بشرى الخير لـ"الترا صوت"، إن هذه العادة "تميزهم عن غيرهم ولن يفرطوا فيها أبدًا"، مشيرًا إلى أنها عادة متوارثة، يحثهم عليها الكبار، من باب "المرابطة على فعل الخير"، رغم مخاطر حوادث الطريق التي قد يتعرضون لها، ويعرضون السيارات لها. يقول: "إنها عادة تعبر عن الكرم السوداني الأصيل".

ذكريات الحلو مُر

روى الأديب السوداني الطيب صالح، بعض ما احتفظت به ذاكرته، فيما يعد توثيقًا لإفطارات الشوارع في رمضان قديمًا، والتي يبدو أنها لم تتغير كثيرًا. وقال صالح في مقال له تداوله السودانيون على مواقع التواصل الاجتماعي: "أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر. كنا قبيلة أفرادها كلهم أحياء، دورنا تقوم على هيئة مربع، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية، كنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة". 

وأضاف: "أذكر جيدًا طعم التمر الرطب، وهو أول ما نفطر به، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب، وكانت لنا نخلات نميزها ونعتني بها. لها ثمر شديد الحلاوة، تخرجه باكرًا".

ورسم صورة لمذاق الماء الذي يصفى ويبرد في الأزيار "خاصة ماء القرب، الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ، وشراب الأبري، وهو يصنع من خبز يكون رقيقًا جدًا، أرق من الورق، تضاف إليه توابل، وينقع في الماء ويحلى بالسكر". 

كما ذكر شراب "الحلو مر"، وهو "من عجين مخلوط بتوابل خاصة، حين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة" وهذان الشرابان، كما يقول الطيب صالح "لا يوجدان إلا في السـودان، وهما مرتبطان برمضان، ولهما رائحة عبقة فواحة"، على حد وصفه.

أصناف مائدة رمضان

ورغم أن رمضان هذا العام شهد أزمات معيشية وغلاء فاحش في السلع الضرورية، إلا أن إفطارات الشوارع لم تختف بالمرة، وانتشرت بالمقابل منظمات تقوم بتوزيع وجبات مجانية تحت الجسور ونقاط العبور. 

وتضم المائدة السودانية في رمضان أطباق شهية، مثل عصيدة الدخن والقراصة التي تصنع من القمح، والبليلة، وبعضها حصرًا على السودان مثل التي ذكرها الطيب صالح، كمشروب الحلو مر الذي يصنع من الذرة المخمر، ومشروب الأبري.

وتعمل المنظمات والجمعيات الخيرية في كثير من مناطق السودان خلال رمضان، لكن مجهودها هذا العام تركز في منطقة الاعتصام المتواصل منذ أربعة أشهر بمقر قيادة الجيش وسط الخرطوم، والذي يقصده يوميًا آلاف الناس، بعضهم يحرص على حمل ما خف من الطعام والشراب، والبقية يشدون الرحال لتناول الإفطار نتيجة للعوز. ويعتبر إفطار الاعتصام حتى الآن هو أكبر إفطار جماعي يعرفه السودان .

الكرم القاتل

ظاهرة إجبار المارة على التوقف وتناول الإفطار في شوارع الخرطوم وغيرها من الولايات، تكون في بعض الأحيان مزعجة، تحديدًا للذين لديهم ارتباطات بدعوات خاصة، ويطاردون الوقت للوصول إلى وجهاتهم، وهو ما يعرض من يغلقون لهم الطرق للمخاطر وأحيانًا الموت، بسبب السرعة الزائدة. 

بسبب ذلك انتقد البعض هذه الظاهرة، منهم الكاتب الصحفي حسين ملاسي، والذي اعتبر أيضًا أن توزيع الطعام على ركاب السيارات عند الإشارات وتقاطعات الطرق، دعم يذهب لمن لا يستحقه.

وأبدى ملاسي استغرابه من خفوت الضوء عن المنظمات والأفراد الذين اعتادوا على تقديم وجبات الإفطار لسائقي السيارات، وقت الإفطار هذا العام. وقال ملاسي لـ"الترا صوت"، إن "بعضهم يقوم بقطع الطريق القومي مُرغمًا العابرين بسياراتهم على الوقوف لتناول الإفطار، وبعضهم بدلًا من توجيه الإفطارات إلى مستحقيها فإنهم يوزعونها على سائقي السيارات الذين لم يدركوا الإفطار في موعده حيث يتوجهون".

ظاهرة إجبار المارة على التوقف وتناول الإفطار، تكون مزعجة في بعض الأحيان، بل أحيانًا تشكل خطرًا لدرجة الموت!

وأضاف ملاسي: "لكن هذا العام، توجهت جميع جهود تلك المنظمات، لا لتوفير وجبات الإفطار لعابري الطريق بسياراتهم داخل الخرطوم، وإنما إلى توفيرها للمعتصمين السياسيين في محيط القيادة العامة"، مشددًا على أنه "سيظل التحدي المتمثل في توجيه الإفطارات إلى محتاجيها الحقيقيين، هو التحدي الحقيقي الذي سيواجه تلك المنظمات في السنوات القادمة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

5 مشروبات سودانية مميزة لمائدة رمضان

شهادات شخصية.. ماذا يفعل أصحاب العقائد الأخرى في رمضان؟