اسماعيل شموط شخصية بارزة في الفن الفلسطيني الحديث، ولد عام 1930 في اللد، وهو الثاني من بين ثمانية أطفال في عائلة من الطبقة العاملة. التحق بجامعة الفنون الجميلة في القاهرة من 1950 إلى 1954 وواصل تعليمه في أكاديمية "دي آرتي" في روما من 1954 إلى 1956.

ألهمت تجربته المباشرة مع النكبة الفلسطينية أعماله الفنية وصبغتها بالقومية. ففي تموز/يوليو 1948، سقطت مدينة اللد تحت الهجوم الصهيوني، وعانت من قصف جوي قبل أن تصبح موقعًا لواحدة من أعنف مذابح النكبة في صفوف المدنيين الفلسطينيين.

لم ينس اسماعيل شموط رحلة الخروج من اللد، خصوصًا أن شقيقه توفيق البالغ من العمر عامين مات خلالها بسبب الجفاف

أجبرت القوات الصهيونية سكان اللد على إخلاء منازلهم، وأصبح شموط البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا واحدًا من مئات الأشخاص الذين أجبروا على الخروج سيرًا على الأقدام، في ما يعرف الآن باسم "مسيرة الموت اللدانية".

اقرأ/ي أيضًا: الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج.. تراجيديا في الحياة والموت

وتحت تهديد السلاح سار سكان اللد عدة أميال في حرارة الصيف القاسية، ولم ينس شموط هذه الرحلة البشعة التي توفي خلالها شقيقه توفيق البالغ من العمر عامين بسبب الجفاف. وبعد أسبوعين من مغادرة منزلهما، استقر الشموط في مخيم للاجئين في خان يونس بغزة. وفي عام 1950، استقل القطار من خان يونس إلى القاهرة لمتابعة مسيرته الفنية. وحصل حينها على وظيفة رسام ملصقات سينمائية مصرية لوكالة إعلانات، فكان يداوم في الكلية خلال النهار ويعمل طوال الليل.

إلى أين؟

حينها، أي في بداياته، تمثل أسلوبه بالواقعية حيث عرض في لوحاته الفقر والنزوح والمعاناة، وقام بعرضه الأول في غزة. وقد ألهمت هذه الحلقة المأساوية أولى لوحات شموط التي نالت استحسان النقاد وتحمل عنوان "إلى أين؟" عام 1953. تظهر اللوحة رجل مسن مستنزف، لكنه ثابت، ويحمل أطفاله - أو ربما أحفاده - وهم يسيرون إلى المجهول. ونجحت هذه اللوحة في إيصال معاناة الشعب الفلسطيني، حيث تركت أثرًا وأصبحت رمزًا فوريًا للقضية الفلسطينية.

وفاء الرز، الكاتبة والباحثة في مؤسسة رمزي وسائدة دلول للفنون في لبنان قالت لـ"ألترا صوت": "تميزت لوحاته في هذه المرحلة من حياته بغياب الأب وغياب الأم وضياع الولد وخسارة الأهل بسبب الهجرة، وطغت على أعماله روحية الحزن، كذلك سادت الوحدة في لوحاته كما في لوحة (هنا كان أبي)".

سيرة نضال طويل

في القاهرة عام 1954، أقام شموط أول عرض له مع زميلته تمام الأكحل، التي تزوجها فيما بعد، وكان هذا المعرض محوريًا في مسيرته حيث افتتح الرئيس المصري جمال عبد الناصر المعرض، وحضره ياسر عرفات، رئيس اتحاد الطلاب الفلسطينيين، آنذاك. وفي عام 1958، انتقل شموط إلى بيروت، حيث أصبح في الستينيات مديرًا لإدارة الفنون والثقافة الوطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

لوحة مشتركة لتمام واسماعيل

وصمّم أول شعار لمنظمة التحرير الفلسطينية وأنتج ملصقات وكتيبات سياسية تعزز المقاومة الوطنية بما يتماشى مع روح الفن الواقعي الاشتراكي الذي شاع بفعل الأنظمة الثقافية للكتلة الشرقية. ووفقًا لهذه العقلية السياسية يجب على الفن إيصال رسائل مباشرة يسهل فهمها من قبل الناس من جميع الخلفيات، مما يساعد على توحيد البروليتاريا في دعم التحرر الوطني.

وترأس شموط قسم الفنون والثقافة الوطنية بمنظمة التحرير الفلسطينية منذ نشأتها، ثم شارك في تأسيس اتحاد الفنانين الفلسطينيين، وانتخب أمينًا عامًا لهذه النقابة عام 1969، ومن ثم أصبح المستشار العام لاتحاد الفنانين العرب عام 1971.

فلسطين الأم والعذراء

ومع نمو المقاومة الوطنية الفلسطينية في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عكست لوحات شموط العزم والتفاؤل. فقد تحول أسلوبه من التعبير الكئيب إلى لوحات تنبض بالحياة، واستبدل الشكل المتجهم للاجئين بمقاتلين يافعين أقوياء. كما أظهر النساء اللواتي يرتدين الثوب الفلسطيني التقليدي والمزين بالتطريز المعقد ذي الألوان الزاهية الذي تشتهر به الحرفيات الفلسطينيات، ويعتبر تعبيرًا عن التراث والعادات والتقاليد والفولكلور الفلسطيني.

استطاع اسماعيل شموط تطوير أسلوب رمزي يعبر من خلاله عن تجاربه المؤلمة حتى صار أيقونة قومية، ثم اعتمد على الصور اللفظية مثل قصيدة محمود درويش "عاشق من فلسطين". وأعطى شكلًا مرئيًا لرمزية فلسطين كجسد أنثوي بمثابة امرأة فلاحة، تلبس فستانها التقليدي، كرمز للوطن. وأصبحت فلسطين تتمظهر كأم وعذراء، كالطبيعة الأم التي ترعى وتدعم الحياة، وتمتلك الشرف الذي يتطلب الدفاع عنه.

استطاع اسماعيل شموط تطوير أسلوب رمزي يعبر من خلاله عن تجاربه المؤلمة حتى صار أيقونة قومية

أنتج الزوجان سلسلة من تسعة عشر لوحة تشبه الجدارية بعنوان "فلسطين: الخروج والأوديسة"، وهي عبارة عن رسومات لشخوص على قماش في مشاهد تتأرجح بين اليوتوبيا والديستوبيا. ويقدم شموط في سلسلته الفنية تصويرًا مليئًا بالبهجة والفرح للحياة في ثلاثينيات القرن الماضي.

اقرأ/ي أيضًا: رحيل الفنان كمال بُلاطة.. ذاكرة القدس الملوّنة

كذلك تضم السلسلة "الربيع الذي كان"، وتصويرًا للنزوح والصراع والمقاومة، وإشادة بالشهداء الذين سقطوا في فلسطين. وتختتم السلسلة بـ"حلم الغد" وهي لوحة مليئة بالتفاؤل تصور الأطفال الذين يتدفقون إلى فلسطين الأم، جامعين الزهور والفواكه لها، بينما يطير الحمام بحرية في الهواء.

بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وما تلاه من طرد لمنظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية؛ هاجر شموط إلى الكويت. لكن حرب الخليج شردت الفنان مرة أخرى عام 1991 وعندها غادر إلى ألمانيا، ثم عاد واستقر بعد ذلك في عمان. في عام 1997، بعد ما يقرب من خمسين عامًا، عاد شموط وزوجته تمام الأكحل إلى فلسطين لزيارة ما كان في الماضي مدينتهما، اللد ويافا، ليكتشف أن منزل أسرته يسكنه مواطنون إسرائيليون.

رموز ودلالات

بحسب الباحثة وفاء الرز، تحمل لوحة "لحمام يطير" رموزًا عديدة، وهي من أعمال شموط المتأخرة في عام 1994، ودلالاتها المميزة تكمن في "الرمز الأول أن الحمام يرمز للسلام الذي يفتقده الشعب الفلسطيني ويتمنى استعادته بعد الرجوع إلى أرضه، فيومًا ما سيتمكنون من استعادة بلادهم، وهناك العديد من الفنانين كانوا يستخدمون الحمام وقضبان السجن معًا للإشارة إلى الأمل، فالحمام ينقل الأخبار السارة ولذلك هم بانتظاره دومًا".

لوحة الحمام يطير

وتشرح حول الرمز الثاني بالقول "فاكهة الصبير ترمز إلى الصبر والتمسك بالأرض وعدم الاستسلام والاستمرارية، فالصبير يرمز عند الفلسطينين إلى حدود المنزل حيث إن البيوت غالبًا ما كان يزرع في محيطها نبات الصبير فترسم الحدود بين البيوت تبعًا لذلك، خاصة وأنها نبتة تمتلك قدرة عالية على الصبر وتحمل الحر وقلة المياه والجفاف".

وتشير رئيسة قسم الأبحاث في مؤسسة دلول الفنية إلى أن للمرأة رمزية مهمة حيث كانت تبدو المرأة في اللوحة "بألوان فرحة وصاخبة تعطي أملًا للأجيال الجديدة، وترمز إلى ولادة الوطن من جديد".

في كتاب "اليد ترى والقلب يرسم"، صوّرت تمام الأكحل رحلتها الشخصية والفنية برفقة شريك العمر إسماعيل شموط، وأضاءت على جوانب من سيرتهما

وتذكر إلى أن هذه الرموز تناقلها العديد من الفنانين الفلسطينيين بعد اسماعيل شموط، والتزموا بها واقتبسوها (المرأة كرمز للأرض والطفل والحمام والصبير والعمل في الأرض وقدسية الأرض عند الفلاحين والرجل القوي والسواعد القوية) في مرحلة الفن الفلسطيني الحديث.

شموط في مذكرات الأكحل

منذ عدة سنوات، أصدرت "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" مذكرات الفنانة التشكيلية الفلسطينية تمام الأكحل التي حملت عنوان "اليد ترى والقلب يرسم" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2016)، وقد كتبته لتجيب على أسئلة لطالما تعرضت لها، من قبيل: كيف التقيتما؟ كيف تعايشتما فنيًّا؟ 

صوّرت الأكحل رحلتها الشخصية والفنية برفقة شريك العمر إسماعيل شموط، وأضاءت على جوانب من سيرتهما. الكتاب فرصة لمواجهة قصة جيل قذفته النكبة إلى الضياع، لكنه حاول إعادة صياغة الهوية بالألوان من أجل تأسيس حلم فلسطيني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معرض مروان رشماوي.. 22 مدينة في فلسطين

ريم بنّا.. لم تكن تلك حياتي