04-يناير-2022

إنّ رسالة التّعليم التّحرّريّة هي رسالةٌ سياسيّة (تويتر)

دار نقاشٌ بيني وبين طلبتي في إحدى محاضرات مساق "تاريخ ونظريّات الفنّ والعمارة الإسلاميّ"، عن سبل الحفاظ على إرثنا المعماريّ في الأردنّ، وعن أهليتنا للقيام بهذه المهمّة. وعرّجنا أثناء نقاشنا على ذكر قصر المشتّى الأمويّ، الذي اكتُشِف في أواسط القرن التّاسع عشر، ويعتبر واحد من القصور الأمويّة الصّحراوية التّي انتشرت زمن الحكم الأمويّ في صحاري منطقة الهلال الخصيب. بنى المسجد الخليفة الوليد الثّاني في أواسط القرن الثّامن الميلاديّ قبل انتهاء الحكم الأمويّ على أيدي العبّاسيّين بستِّ أو سبع سنين. ويُعتقد أنّ البناء الذي لا يزال ثلثاه تقريبًا فارغين، لم يكمل بناؤه يومًا. من بين العناصر المعماريّة العديدة التّي يمتاز بها هذا المسجد هو بوّابته الضّخمة ذات الزّخارف الهندسيّة والعضويّة المعقّدة، والتّي مزجت بين الفنون الفارسيّة والقسطنطينيّة والشّامية، عاكسةً بذلك مهارة حرفية عالية لدى الأمويين.

يسود قطاع التعليم العالي اليوم خطاب ناشط يدعو إلى تحرير النموذج التعليمي الجامعي من بُنى هيكلية كامنة، تقوم في جوهرها على التمييز والمفاضلة التصاعدية بين الأفراد تبعًا للعرق أو اللون أو الجنس

قام السّلطان عبد الحميد الثّاني في بداية القرن العشرين بإهداء البوّابة المنقوشة إلى قيصر ألمانيا آنذاك، وليام الثّاني، تعبيرًا عن امتنانه لبناء سكّة الحديد بين اسطنبول ومكّة المكرّمة. وتقبع الواجهة الآن في متحف "بيرغامون" في برلين. استطرد بنا الحديث حول معنى عرض البوّابة، وهي إرثٌ معماريٌّ إسلاميّ، اكتُشِف على أرضٍ أردنيّة، في متحفٍ "ألمانيّ". أعني، إذا كان انتقال عهدة الحفاظ على التّراث إلى أحد الدول العظمى، ما هو إلّا تمثّل لواحدة من أوجه الاستعمار، أو أن هذا الانتقال كان حكيمًا في ظلّ العجز الذّي نعانيه في منظومتنا القيميّة المرتبطة بفهمنا لموروثنا الثّقافيّ.

بوّابة قصر المشتى المنقوشة (Getty)

منهاج دراسيّ مناهض للاستعمار: ماذا بعد؟

يسود قطاع التعليم العالي اليوم خطاب ناشط يدعو إلى تحرير النموذج التعليمي الجامعي من بُنى هيكلية كامنة، تقوم في جوهرها على التمييز والمفاضلة التصاعدية بين الأفراد تبعًا للعرق أو اللون أو الجنس. تعود نشأة هذه الهيكليّات إلى زمن الاستعمار الأوروبي، وتعزّز المنظومة النّيوليبراليّة المهيمنة من تجذرها ومتانة قواعدها. انطلق هذا الخطاب في الغرب من السّاحات العامّة قبل أن يتحوّل إلى فضاءات الجامعة المختلفة. انطلاقًا من نُظم قيميّة متنوعة مثل مبادئ العدالة الاجتماعيّة، ومناهضة الاستعمار الغربي. يدعو هذا الخطاب إلى خلق مساحاتٍ فاعلة تساهم بتفكيك هذه البُنى الهيكلية. وأحد أهم هذه المساحات الفاعلة هي المناهج الدّراسّيّة وديناميكيات العمليّة التّدريسيّة داخل الصف.   

لم يكن النقاش الذّي دار بيني وبين طلبتي عن الإرث التّاريخي وعلاقته بالاستعمار بفعل الصّدفة. حيث تقترن هذه النّقاشات عادةً بمحاولاتي كأكاديمية لابتكار طُرق تعليميّة تفسح المجال أمام الطلبة لطرح تساؤلات نقديّة حول التّاريخ. وتتيح مساحة آمنة يتمكّن عبرها الطلبة من الحديث عن أفكارهم داخل الغرفة الصّفيّة. تُمثل مناهضة الاستعمار قاعدة أخلاقيّة توجه ممارساتي التعليمية، وأقتدي بذلك ما استطعت بآراء باولو فريري في كتابه "تعليم المقهورين"، لتكريس السّبل التّدريسيّة المُمَكِنة لتحقيق هذه القاعدة الأخلاقيّة. ويلزم عن هذه القاعدة تغييراتٌ تدريسيّة منهجيّة لا بد منها؛ أحدها إيجاد سرديّة جديدة للتّاريخ تتحدّى الخطّيّة الزّمنيّة التّي عادة ما يتّسم بها تدريس التّاريخ في مناهجنا.

ولذلك، أعرض التّاريخ بطريقة نقاشيّة، وأعزّز من مشاركة الطّلّاب عبر تشجيعهم على طرح معارفهم وآرائهم وتساؤلاتهم بما يخصّ المادّة التّاريخيّة المبحوثة. إن خلفية الطلبة تسهّل من عملية طرح مادّة تاريخ ونظريّات الفنّ والعمارة الإسلاميّة بطريقة تشاركية، حيث تُمثل الهوية العربيّة (الأردنيّة) الإسلامية خلفية تُعبر عن انتماء جلّ -إن لم يكن كلّ- من فيها. وعلى الرّغم من اختلاف منابتهم الجغرافيّة (العراق، وسوريا، وفلسطين، والأردن، ومصر، وليبيا)، يمثل انتماء الطّلبة الثّقافيّ للهويّة العربيّة الإسلامية -بوصفها الفضفاض- فضاءً معرفيًا عامًا يشتركون فيه بفهم المعطيات الأساسية حول جزئية معينة من هذا التاريخ. إن الإرث المعماريّ، أحد مكونات المساق الرئيسية، يشكل موروثًا ثقافيًا للطلبة، ولذلك ترتبط معرفتهم به بهوياتهم..

"شكلك بتحبّي السّياسة؟": عن أيّ حقوق نتحدّث؟

يرى محرّرو كتاب إنهاء استعمار الجامعة (2017) أنّ المحاولات التّحرّريّة لم تتجاوز نموذج الجامعة في الشّمال، وأنّ الخطابات المرتبطة بإنهاء استعمار الجامعة في الجنوب لا زالت قاصرة. ويبدو ذلك أمرًا منطقيًّا إذا اتخذنا الوضع الحقوقيّ في كثير من بلاد الجنوب مرشدًا لنا. إذا كانت المحاولات التحرّرية المناهضة للاستعمار لنموذج الجامعة تشكّل امتدادًا طبيعيًّا غير متكلّف للمحاولات التحرّرية الجارية على مستوى حقوقي مدنيّ. فإنّ فضاء الوعي الذّي يفترض به احتواء هذه المحاولات، وتوفير الحماية لها هو فضاء هشّ. ففي ظلّ التّضييق الذّي يشهده المجال الحقوقيّ في الأردنّ، وبسبب غياب بنية حقوقيّة تحتيّة توفّر الحماية للأستاذ الجامعيّ، يعتبر خوض الأستاذ الجامعيّ في أيّ نقاش يتّسمّ بالسّياسيّ خطرًا كفيلًا لتعريضه للمساءلة والتّضييق.

لم يكتمل النّقاش، كان عليّ إنهاؤه بسرعة، ومن ثم اختتام المحاضرة قُبيل موعدها بدقائق. فقد تحسّسَ أحدُ طلبتي أثناء نقاشنا أنّي قد أكون "سياسيّة"، فسألني: "دكتورة شكلك بتحبّي السّياسة؟". تحتمل كلمة  سياسة معاني كثيرة نظريًا وأكاديميًا، لكن في وسطنا، أعلم وتعلمون، أنها تعني أمرًا واحدًا. وأن التحول من فعل السّياسة كـ"حقٍ مشروع" إلى "تُهمة"، تحولٌ فائق السرعة.

لم يأتِ سؤال الطّالب الفضوليّ أو الاستنكاريّ حول "سياسيّتي" تعقيبًا على انتقادي لأحد الّرموز الوطنيّة. بل جاء بعد سؤالٍ وجّهته للطّلاب عن موقع واجهة قصر المشتّى. سألتهم: "أتعلمون أين واجهة القصر؟". لم يجب أحد. أجبتهم: "ألمانيا، برلين". ما إن رميتُ لهم تلك المعلومة، حتّى رنّت كلمة "استعمار" في أذهاننا بدايةً، وثمّ في القاعة، حين قرّر أحدهم نطقها، وإن كان بتردّد. ثمّ بحماسٍ مطّرد، تواردت لرؤوسهم كثيرٌ من الأسئلة: "متى؟ ومَن؟ ولماذا؟". حينما عرضت لهم صورة الواجهة نفسها، جاء سؤال: "طيّب، دكتورة، يعني كيف!؟".

وسط كلّ الحماسة، كان لوقع الاستياء المحيط بالسُؤال الأخير طرافةٌ نوعيّة. خوفًا من حساسيّته في غرفة صفيّة ينتمي معظم من فيها إلى تاريخٍ معاصرٍ مهزوم، وحاضرٍ مضطربٍ، ولأنّني على علمٍ بالحراجة التّي قد نتعرّض لها (أنا وطلبتي) إذا ما وُصِمَت غرفتنا الصّفّيّة بالسّياسيّة، فإنّي عادةً ما أتجنّب طرح سؤال الاستعمار بشكل مباشر. لذلك، قرّرت البدء بالإجابة عن السّؤال حول كيفيّة نقل الواجهة.

التزامًا بالمدخل التّشاركيّ الذّي أتّبعه، لم أعطِ الإجابة بشكلٍ صريح، مهّدت لها فقط: "قد تظنّون أنّ ثقل الحجر وضخامة البناء قد تقف عائقًا في وجه النّقل، لكن ما قد يكون غائبًا عن مخيّلتكم هو أنّ تقنيّات النّقل والحفاظ على التّراث هي تقنيّات هائلة قد طوّرت الوسيلة للتّرميم والنّقل وإعادة البناء". سألتني إحداهن، وقد بدا لي أنّ فكرة الحفاظ على التّراث، وتطوير الوسيلة اللّازمة لذلك، أمرًا صَعُبَ عليها فهمه حقًا: "طيّب دكتورة، يعني ليش؟ ليش يعملوا كلّ هاد لحتّى ينقلوا ويحافظوا على القديم؟". ناورتها بإجابةٍ عن "القيم" وعن الحاجة التّي تبرّر اختراع الوسيلة التّي تمكنّنا من المحافظة على ما نراه قيمًا. أسعفتني ذاكرتي بتقريرٍ صحافيٍ مصوّر كنت قد شاهدته قبل سنوات يصف التّقنيات المستخدمة والجهود المبذولة لإعادة ترميم كنيسة نوتردام، والتي كانت قد تعرّضت لحريقٍ كبير قبيل أعوام. حضرنا التقرير سويًّا وعقّبنا على التّقرير المصوّر بالحديث عن تكلفتها العالية جدًّا وتقنياتها وفنونها والجهود المبذولة لإعادة بنائها.

"ترى إحنا بدنا حرق والله!": النّظرة الدّونيّة للذّات والحفاظ على التّراث

إنّ رسالة التّعليم التّحرّريّة هي رسالةٌ سياسيّة دون أدنى شكّ. يجادل باولو فريري بأنّ تجلّي حقيقة قهر المقهورين أمام أعينهم هو جزء مهم وأساسيّ من عمليّة التّحرير. بمعنى أن يتجاوز تفكيرهم في حقيقة قهرهم، قبولهم له، بوصفه أمرًا واقعًا. وأن يتحوّل إلى نقدٍ جاد يتفكّرون من خلاله ببُنى السّلطة الهيكلية التّي جعلت منه وسيلةً للاستبداد. إنّ هذا التغيّر في وعي المقهور مهمّ وأساسيّ كمرحلةٍ انتقاليّةٍ لأنسنة الأفراد على حدّ تعبير فريري. يصاحب عمليّة التّفكير النّقدية تغيّرٌ في الأدوار التّي فرضها القاهر على المقهور. بينما تختلف حدّة هذه التغيّرات وطبيعتها تباعًا للتّركيبة الاجتماعيّة التّي تشكّل كلّ فرد على حدىً، إلّا أنّها –على اختلافها- تسهم في إعادة صياغة فاعليتهم السّياسيّة، وبالتّالي مشاركتهم الجمعيّة لاسترداد حقوقهم المسلوبة. تكمن إذن سياسيّة رسالة التّعليم التّحرّريّة في الأثر الذي تتركه في الأفراد، وانقلابهم على الأدوار التّي فرضها عليهم القاهرون بحكم السّلطة والمال.

ربّما عليّ الاعتراف بأنّ اعتقادي بإمكانيّة تجنّب سؤال الاستعمار في الغرفة الصّفّيّة هو اعتقادٌ خاطئ. لم يخدم مثال ترميم كنيسة نوتردام نيّتي بتجنّب سؤال الاستعمار، بل عزّز من أهميّته. جرّ التّقرير الصّحافيّ المصوّر حول قيمة الموروث أسئلةً وتعليقاتٍ تشير إلى آثار الاستعمار القهريّة المتعمّقة في نفوس الطّلبة أيضًا. فبينما توظّف فرنسا كلّ الموارد البشريّة، وغير البشريّة، اللازمة لإعادة ترميم كنيسة نوتردام، يتعرّض موروثنا الثّقافيّ يوميًا لخطر الدّمار والسّرقة والاندثار. أطال أحد طلبتي التّأمّل في التّقرير الصّحافيّ عن كنيسة نوتردام ثمّ استنتج باستسلام جليّ، قائلًا: "دكتورة! بتعرفي… أقلّك شغلة: والله يجوز أحسن تضلّ عندهم البوّابة. ممكن يعرفوا يحافظوا عليها أكثر منّا. خلّيها عندهم!". هذا الشّعور بالاستسلام عادة ما يمتزج بشعور بالدّونيّة مقابل الآخر الأوروبيّ. قال طالبٌ آخر:"دكتورة، سمعتِ بالصّخرة اللي كسّروها بمأدبا؟ ترى نحنا والله بدنا حرق". أثارت حفيظتي الأخلاقيّة عبارة "بدنا حرق"، وسألت الطالب: "أترى أنّ كسر الصّخرة هي مشكلة محصورة بالأشخاص الذين قاموا بهذا الفعل؟ أم أنّ هذا كما كثير من الظّواهر السيئة التّي نشهدها وننتقدها ما هي إلّا نتيجة حتميّة لإهمال وإرهاق عقول العامّة؟".

"على أيّ إنسانٍ عاقلٍ أن يُحبّ السّياسة": لن نناهض الاستعمار دون حقوقٍ مدنيّة

لم يكن قصر المشتّى هو القصر الوحيد الذي أثار النّقاش حول معطيات واقعنا مقارنةً بالماضي. مثلًا حين عرّفت الطلّاب على القصور الأمويّة، كنت أطلب منهم استخدام خرائط جوجل لتقدير المسافة بيننا وبين موقع القصر. أحد أقرب القصور الأمويّة مسافةً، وأبعدها وصولًا كان قصر هشام -أو خربة المفجّر- في أريحا؛ ذلك بسبب الاحتلال الإسرائيلي الذّي لم يشوّه شكل الأرض فحسب، بل مخيّلتنا الجغرافيّة، وفهمنا للمسافات؛ فأصبح ما هو شديد القرب، شديد البعد أيضًا. إنّ الحاجة لمناهضة الاستعمار عبر نموذج الجامعة في الجنوب، بلا شك حاجةٌ ملحّة.

إنّ رسالة التّعليم التّحرّريّة هي رسالةٌ سياسيّة دون أدنى شكّ. يجادل باولو فريري بأنّ تجلّي حقيقة قهر المقهورين أمام أعينهم هو جزء مهم وأساسيّ من عمليّة التّحرير

نحن بأمَسِّ الحاجة لتخريج شباب ذي بنية معرفية متينة، تجعله فاعلًا سياسيًّا مؤثرًا. لا يقتصر دور التعليم على تخريج متعلمين فحسب، بل يجب تخريج شباب فاعلين، بقدرة على ممارسة النّقد. حينما سُئلت عمّا إذا كنت من محبي السياسة، أجبت الطّالب بما يلي: "على أيّ إنسان عاقل أن يُحبّ السّياسة؛ لا لأنّه يهوى المشاكل، بل لأنّه يعلم أنّ ما يمسّ شأن العامّة سيمسّ حياته هو أيضًا". إلّا أنّ القيود المفروضة على الفضاء العام ووصم ما هو سياسيّ بالخبيث سيقف عائقًا يؤجّل من هذه الحاجة الملحّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 الأدب الأفريقي ومسألة اللغة