24-أغسطس-2015

راجعي أمومتك من جديد وحرّريها (أ.ف.ب)

كانت تحبّ أن تجلس على عتبة المنزل. تراقب المارّين في منعرجات الزمان. ترتدي فستانها الجميل الذي يشعرها وكأنّها إحدى بطلات أفلام الأبيض والأسود، تسدل شعرها ويهيّؤ لها وكأن كل أغاني عبد الحليم تغنّى من أجلها.

وتذكره، ذاك الذي كانت تراقبه سرّا.. وتكتب له سرّا.. وتحبّه سرّا.

لا أدري كيف كان يتمّ اختيار المحبوب من قبل. كان رجلًا لا تعرفه كثيرًا. يتراءى من بعيد رجلًا وسيمًا وقويًا.

حتّى جاءها السيّد، والدها، يوما. وأعلن أنّ موعد زواجها قد حان. كان عليها فقط أن تجهّز الأغطية وتخيط الستائر والفساتين، وتغسل الأطباق التي أفنت والدتها عمرًا في جمعها منذ ولدتها أنثى.

وأن تدفن الحبّ الصامت وتعلن لقلبها عن سيّد جديد لا تعرف عنه شيئًا. هي هكذا، في أهم قرارات الحياة، لم يكن لها الخيار.

المرأة تٌربى لسنوات على التضحية التي تستنزف ذاتها

الغريب أن فكرة الزواج أسعدتها وراقصتها على أنغام الحياة وبنت معها أحلامًا جديدة. تخيّلت أنها كانت تخاف الحب قبله وجاءها ليغيّر كلّ حياتها كما حدّثتها "الستّ" في "سيرة الحب"  وأنه سيركض خلفها في الحديقة مداعبًا شعرها الذي كانت تظنّه منسدلًا أسودًا وما كان. هي هكذا كانت "خرّيجة مسلسلات".

فجأة، لم تعِ كيف ركض بها العمر سريعًا حتّى وجدت نفسها مع كومة من الأطفال، شديدي الصخب وفوضويّون جدًا. هي امرأة لم تمسك بزمام القرار يومًا، تدير الدنيا حول من تحب لإرضائهم. هكذا تخيّلتها..

كنت أسير في طريقي الى الجامعة حين علا صوت طفل صغير باكٍ، الأمر الذي كان يضايقني كثيرًا. ومن أبشع المشاهد عندي، تلك الحركة الصغيرة التي تقوم بها أمّ على الطريق حين تجذب يد ابنها أو ابنتها الصغيرة بقوّة وتجرّها جرًا حتّى يبلغا المنزل تحت وبيل من التّهديدات.

دفاعًا عن صوت ذاك الطفل المعذب والباحث بين يدي أمّه عن الأمان..

من أجل هذه المرأة..

والمرأة التي أطلّت من شرفتها والتي سمعتها تقول لا تتركي طريقك إلى الجامعة أبدًا..

والمرأة التي جلست أمامي على مقعد المترو والتي طلبت منّي نظرتها الصامتة، متحسّرة، أن لا أتزوّج وأن لا أنجب مثلها طفلًا يسرق العمر مني..

سألومكنّ، بكلّ حب، حيث يتغنّى المثقّفون بكنّ وتصدح وسائل الإعلام ضد الظلم الذي تتعرّضن له، سأوجّه اصبع الاتّهام هذه المرّة صوبكنّ..

لنعترف أولًا أن المجتمع خانق وأنّ الحياة مرهقة بعض الشيء رغم الإيمان الذي بداخلي أنّنا من نختار الحياة وأنّ وضعك هذا كان خيارك منذ البدء.

المرأة تٌربى لسنوات على التضحية التي تستنزف ذاتها فتولد ومعادلة الحياة المنتظرة بسيطة جدًا. إنها وُهبت حياة لتهبها للأخرين.

تقول المرأة في مجتمعاتنا العربيّة عامّة والتونسيّة خاصّة إنها تتعب كثيرًا، وهي كثيرة الشكوى. تستقبل زوجها بقائمة التضحيّات التي أفنت عمرها في تنفيذها وتعاقب طفلها لمجرّد أنّه خطّ شيئًا على الحائط بعد السنين التي أمضتها وهي تجمع ثمن الحجارة والاسمنت والحديد. هكذا يدفع الأبناء ثمن كلّ شيء ويتحمّلون مسؤوليّة كلّ شيء.

هم مسؤولون عن بطنها المترهّل وكومة الشحم التي حملتها إثر الولادة متانسية بذلك جمال صباها ومسؤولون عن المنزل المهدّم وغلاء المعيشة وأجرة الطبيب المرتفعة ومرض والدتها وحالة الطّقس المتقلّب ومسؤولون أيضا عن زوجها الذي يعود متأخّرا ليلًا والذي لا يعير اهتمامًا لشكواها المستمرّة.

هي هكذا تكنز الكثير في قلبها لتصبّ جام غضبها على ابنها وهي تدرك جيّدا أنّه من كلّ هذا براء. يأتي الابن بمحض إرادتها إلى الحياة لتغدقه أمّه خوفًا وتضحية فيشهد على أكثر الوقائع إجرامًا في الحياة، مستهلكًا حياة أمّه.

هي بذلك كالشرفة التي تفترش زهورها للمارّين في الشارع السفلي. تملأ أعين المتأملين فيها سلامًا وجمالًا وتسرق نظراتهم الحزينة وتجذب أرواحهم المحترقة وتهديهم أملًا، اندثر داخلها مع الزمن.

وبسبب ذلك يشتدّ ظلمها. تصير امرأة مكبّلة تنسى أبسط حقوق نفسها ولن تعطي إذا حقوق أبنائها. خوفها من تكرر مشهد الحياة الذي عايشتها أمامها، يجعلها تشدّ خناق أبنائها.

يأتي الابن بمحض إرادتها إلى الحياة لتغدقه خوفًا وتضحية فيشهد على أكثر الوقائع إجرامًا في الحياة، مستهلكًا حياة أمّه

على ابنتها أن تكون صورة منها. أن تعلّمها ما تعلّمته تمامًا. أن لا تصغي لها ولاختلافها وأن تتزوّج رجلًا ثريًا لكي لا تشقى.

وعلى ابنها، الذي انصهرت فيه، وشاركته ذاتها وسرقت منه أحلامه لتتبنّاها عنه، أن يتميّز بالمفهوم الذي تراه والذي سوّقه لها المجتمع، أن يتفوّق رقميًا، في دراسة لا أدري كيف ولماذا وضعت برامجها بهذا الشكل، عليه أن يكون أوّل الأغبياء فيكون ملقّنًا بغباء وحافظًا بغباء وناجحًا بغباء. عليه أن يكبر كما أرادت، أن يصير أستاذًا أو طبيبًا أو مهندسًا، قالبا يقدّسه المجتمع غير آبه بما حوى. والمهمّ بالنسبة لها كيف سيتراءى للجميع حتّى تفخر به ولا يضيع تعبها.  

يبدأ قلب الأمّ بـ"الاكتظاظ" خوفًا على مستقبل أبنائها وتوتّرًا ممّ ينتظرهم وغضبا على عدم امتثالهم لأوامرها وسخطا على الظروف. والحال أنّ الأمومة شعور طاهر من كل هذا.. شعور يولد بالفطرة حرًا. هو حب لا مشروط يوهب للابن كيفما كان. هو حب يرفعه، يشدّ أوّل نبض للإبداع عنده وينمّيه ويعزّز ثقته بنفسه.

الابن الذي يولد بين ذراعي أمّ مرتبكة مقيّدة تجهل ذاتها، لن يكون أبدا كما تريد له أن يكون.. سترتجف قدماه على سلّم الحياة طويلا حين يقذف وحده إليها.

الابن الذي يولد بين ذراعي أمّ مرتبكة مقيّدة تجهل ذاتها، لن يكون أبدا كما تريد له أن يكون

إلى كلّ حبيبة نظرت إليّ بيأس ورأت في شخصي أحلامها المعلّقة والمغتالة..

راجعي أمومتك من جديد، أتغدقينها حبًا أو ظلمًا؟

حرّريها !

فبين المحبة الخالصة والتعلق.. رقّة شعرة

وبين العطاء والتضحية.. رقّة شعرة

وبين الإرشاد والتحكّم.. رقّة شعرة

الأولى حب سليم معافى، أمومة خالصة..والثانية مرض للقلوب ولكِ الخيار!