17-يونيو-2019

أمل عرفة في برنامجها "في أمل"

ينتمي الفنّ بطبيعته الخلّاقة إلى الحقل الإنساني بامتياز، ذلك أنه منتج لا يزول بزوال زمن إنتاجه أو تلقيه، وما ذلك إلا لكونه قابلًا للاستهلاك الروحي مرات ومرات. الفنان الدرامي، الممثل مثلًا، لا تنتهي علاقته بالمُنتَج الفني سواء كان فيلمًا أو مسلسلًا تلفزيونيًا عقب انتهاء تلقيه من قبل مشاهديه بل يستمر ليصل إلى نوع من العلاقة الحميمة بين طرفين، واحد يطمح للحصول على الاعتراف العميق من قبل مشاهديه بقيمة منتجه الذي يقدمه، وآخر يطمح للتماهي معه واجتيافه شعوريًا لتعويض العديد من مركبات النقص التي تعتمل في داخله.

ابتعاد الفنان عن الوسط الفني لفترة تطول أو تقصر، أو محاولة اعتزاله له على نحو نهائي تترك في داخله مكابدة ما بعدها مكابدة

تكاد تكون العلاقة بين الفنان وجمهوره علاقة مرضية لدرجة أن الفنان لا يتخيل نفسه بعيدًا عنه، فالجمهور بالنسبة إليه ليس مدخلًا للحصول على الاعتراف الاجتماعي بدروه كشخص مؤثر في محيطه الاجتماعي فحسب، وإنما يتجاوزه ليمتد إلى إحساسه العميق بأنه صاحب سلطة عليهم، سواء كانت تلك السلطة محض متخيلة أو واقعية محسوسة، عبر الرغبة بمحاكاة سلوكه والذهاب إلى حد تصديق كل ما يقوله أو يصدر عنه. من هنا كان ابتعاد الفنان عن الوسط الفني لفترة تطول أو تقصر أو محاولة اعتزاله له على نحو نهائي تترك في داخله مكابدة ما بعدها مكابدة، كونها تمثل تحولًا في المستوى الوجديّ له من شخص فاعل يعيش في قلب المركز أو الحدث إلى إنسان هامشي يعيش أو يوجد على أعتابه القصوى.

اقرأ/ي أيضًا: عابد فهد.. العودة إلى حضن البهيمية

في حالة اعتزال الفنان المصري محمود ياسين لا نجد أنفسنا أمام حالة اعتزال طوعية عن سبق إصرار وتصميم، إنما أمام حالة من خذلان جسد الرجل لصاحبه بعد أن تم تشخيص إصابته بمرض الزهايمر. أما في حالة الفنانة نجاة الصغيرة فالأمر مختلف، فالدافع وارء اعتزالها لا يمكن نسبته لحالة العطب الجسدي والذهني الذي أصاب محمود ياسين، وإنما في رغبتها الواعية بالحفاظ على مستوى فني رفيع سبق لها أن تربعت عليه في زمن عمالقة الفن الكبار، ذلك الزمن الذي تميز بذائقة فنية محددة مع رهط كبير من المؤلفين والملحنيين المميزين.

الاعتزال الذي أصرت أن تعلن عنه الفنانة أمل عرفة عبر جريدة الأخبار اللبنانية، الوكيل الحصري لفناني النظام في لبنان، لا ينتمي في طبيعته إلى تحول في طبيعة النظرة إلى المنتج الفني من حيث كونه منتجا ينتمي إلى حقل الحلال والحرام، الذي تميزت به فترة الردة الفنية التي ضربت أوساط الفنانين المصريين والمصريات في فترة الثمانينيات والتسعينيات وما تلاها، ولا لرفض الانخراط في تقديم أعمال فنية لا ترتقِ إلى السوية الفنية المطلوبة كما في حالة الفنان يوسف شعبان، وإنما ينتمي لحالة من القرف المعمم الذي أصاب المرأة عقب تبنيها موقفًا إنسانيًا بحتًا لم يخطر ببالها أن يتم أخذه إلى حيز السياسي السلطوي: "سأترك الفن لأهله هذا آخر كلام عندي، أشعر بالقرف النهائي".

الظاهر في كلام عرفة أن القرف، أي القبح، الذي بدا أنه يقف في طريق إكمال مشوارها الفني، لم يكن سوى رهط كبيرمن أهل الفن الأسدي؛ على شكل ممثلين ومخرجين وكتبة سيناريو ومشرفي إذاعات وتلفزيونات حكومية أو خاصة، أولئك الذين يصرون على تصوير كل موقف إنساني يصدر عنها تجاه المعارضين لنظام الحكم الأسدي وآلامهم كنوع من التبني لأطروحاتهم السياسية في التحرّر من حكم الطغمة الأسدية، الأمر الذي يفجر لدى الموالين للسلطة الأسدية مجموعة من النزعات النفسية اللاواعية في دواخلهم، سرعان ما تنقلب من حالة الشعور بالغضب العارم إلى حالة من الرغبة بالانتقام والإقصاء والمحو لا يتورع وزير الإعلام الأسدي عماد سارة على الانخراط فيها، سواء عبر توصياته الشفوية بمنع بث إحدى حوارات عرفة الحديثة مع إذاعة المدينة، المملوكة لسامر فوز، أو عبر قرار طردها المشين والجائرمن تلفزيون "لنا"، على الرغم من النافذة الكبيرة التي كانت تخصصها لمديح المستبد الأوحد في برنامجها "في أمل".

لم تكن عرفة لتبادر إلى اعتزالها من العمل الفني لولا إحساسها العارم بالقرف من جمهورها الموالي

في الجوهر والمسكوت عنه، لم تكن عرفة لتبادر إلى اعتزالها من العمل الفني بكل ما يحمله ذلك من خسارتها لجمهورها، رأسمال الفنان الرمزي، بسبب مماحكات الوسط الفني وأساليبه التآمرية، لولا إحساسها العارم بالقرف من جمهورها الموالي بحد ذاته، ذلك الجمهور المصاب بالعصاب والهستيريا تجاه كل شخص يبدي حساسية إنسانية للألم الذي يتسبب به النظام لمعارضيه ،لاعتقادهم العميق بأن كل معارض لنظام الأسد الاستبداي هو إرهابي آبق يجب إزاحته من الوجود عبر بوابة الألم الذي لا يطاق.

اقرأ/ي أيضًا: يسر دولي.. مكسيم غوركي الشرق

الجمهور الأسدي ذو النزعة الغرائزية المفتقرة لكل حس إنساني، لا يتورع في لحظات غضبه القصوى عن الانزلاق إلى حقل العنف اللفظي المحمّل بكل أنواع البذاءة الخارجة عن كل حد ومنطق، الأمر الذي يجعل منه جمهورًا مقززًا ومقرفًا إلى أقصى أحد، فما هذا الجمهور الذي لا يفهم سوى لغة السباب والشتيمة تجاه إنسان قرّر اللجوء لضميره؟ كما لا يفهم سوى لغة التجريم والتخوين والدفع بصاحب الموقف المختلف إلى منصة المقصلة الأسدية، دون أن يأخذ بعين الاعتبار موقع عرفة المتناغم مع سياسات النظام العامة المليئة بالإثم والعدوان.

تظهر أمل عرفة ساذجة في معرفة طبيعة النظام الأسدي في كل مرة تحاول الإنصات فيها إلى صوت ضميرها الانساني الذي ينحاز للقيم الإنسانية، فالألم الإنساني بعرفها هو المجال المشترك للكشف عن الجذر الإنساني الخيّر فينا لجهة تحسس ضمائرنا لفواجع أعدائنا وآلامهم، وهو ألم ذو وجهة واحدة في عرف السلطة الأسدية التي تصر على أن تقصره على ألم مناصيرها دون غيرهم، ذلك أن العدو الذي تفترضه الأسدية، أي المعارض لها، هو عدو لا إنساني، لا روح ولا عواطف حافة به، وإلا كيف يكمن لها أن تشجع على إبادته وهي ترقص على أنقضاه دون أي إحساس بالذنب والفجيعة؟

في عرف السلطة الأسدية لا تندرج خطيئة أمل عرفة الأخيرة عبر اعتذارها عن الألم الذي قد تسبّبت به عبر مشاركتها بتمثيل الحلقة 23 من المسلسل الكوميدي "كونتاك"، في تعاطفها مع ضحايا معارضي النظام وحسب، إنما في التشكيك في سردية النظام حول أفراد الدفاع المدني العاملين تحت مظلة "الخوذ البيضاء"، الذين وصفهم الأسد في إحدى مقابلاته بمجموعة من الملفقين لحوادث القصف الكيماوي بالغازات السامة، الأمر الذي يفسّر لنا الرد الصاعق من قبل مؤسسة الأسد الحكومية المتمثلة بوزارة الإعلام، الذي تجلى على كل شكل محو كل أثر لها في الساحة الفنية السورية، وتصنيفها في جهة دواعش الداخل الذين يجب استئصالهم.

لا يمكن للمرء أن على يعثر الجذر الروحي لزلات أمل عرفة اللامقصودة ضد النظام إلا في طبيعة فهمها الساذج للفن، من حيث كونه رافعة لتوحيد "السوريين الأعداء" المنقسمين على أنفسهم حول فكرة الحرية. فالصراع بين السوريين ليس صراعًا بين وجهتي نظر حزبيتين في إطار اللعبة الديمقراطية المتعارف عليها في دول العالم الحر، وإنما صراع وجودي بين سلطة مستبدة سالبة للشرط الإنساني، أي للحرية، وبين مجموع المحكومين المطالبين بإعادة امتلاكها من جديد، من حيث كونها أساس وجوهر كل وجود بشري ذو معنى . لذا فإن مشروع أمل القائم على تصور ساذج بالقدرة على الاحتفاظ بجمهورها السوري، سواء من جهة السلطة أو المعارضة، بعيدًا عن تجاذبات الحرية محكوم عليه بالفشل المسبق. ففي كل مرة تذهب لتبني وجهة نظر النظام في الحرب التي يشنها على السوريين تنزلق بكامل وعيها إلى قاع الدعاية الأسدية الرخيصة التي تمجد القتل، وفي كل مرة تنتصر لضميرها الإنساني فإنها تضع نفسها عرضة لألسنة وقرارات السلطة المتوحشة ومحازبيها، التي لا تقيم اعتبارًا لمثل هذه القيم الإنسانية الفاضلة.

أي دعوة للعودة لحضن النظام السوري هي دعوة للعودة إلى النهج العبودي الذي استمرأ السير عليه منذ لحظة وجوده

اقرأ/ي أيضًا: عباس النوري متصالحًا مع أكاذيب غيره

يُظهر موقف السلطة اللأخلاقي والعملي من اعتذار أمل عرفة الطبيعة الوجودية للنظام الأسدي من حيث كونه سلطة مافيوية، لا يمكن لها أن تغير جلدها حتى وإن أرادت، فإزاء سلطة تعتقد بحقها الحصري والمطلق بإدارة المجتع السوري وفق منطقها العبودي، لا يمكن أن لها أن تتسامح مع حق الآخرين بالاختلاف، حتى ولو كان ذلك في مجال ضيق كالتضامن مع الألم الإنساني للضحايا، فما بالك بحرية إبداء الرأي ونقد السياسات المافيوية التي تنتجها لمراكمة ثرواتها ونفوذها؟ لذا فإن أي دعوة للعودة لحضن النظام هي دعوة للعودة إلى النهج العبودي الذي استمرأ السير عليه منذ لحظة وجوده، كما أنها دعوة لتقبل العبودية الأسدية المتوحشة بأبشع صورها المدمرة، الأمر الذي يظهر تهافت رغبات أمل عرفة التأملية القائمة على الحب والتسامح تجاه مستعبديهم لإصلاح الشرخ الاجتماعي الذي أحدثه النظام الأسدي في عمق الجسد الاجتماعي السوري، والذي جعله أقرب ما يكون للحساء الاجتماعي غير القابل للنهوض والتطور واسترداد عافيته الأخلاقية إلا بزوال سلطته المتوحشة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سامر المصري يتوسّل وطنًا لا رجاء فيه

مي سكاف والعزاء الممنوع