27-يناير-2019

جنود من مشاة البحرية الأمريكية تحت ضربات المقاومة العراقية (AP)

شهدت ساحة إنتاج الخطاب الرسمي وشبه الرسمي في الولايات المتحدة الأمريكية محاولة متأصلة للتنصل من أبرز السمات المعاصرة للبلاد، أي واقع إمبرياليتها الواسعة بوسع الكوكب. إذ، على الأقل منذ مطلع القرن الـ20 وفترة ثيودور روزفلت الرئاسية (1901-1909)، أقدم سياسيون وصحافيون وكتاب وحتى بعض المؤرخين، غير النقديين بالضرورة لواقع السلطة أقله خارج حدود بلادهم، على التأسيس لطبقة اصطلاحية ملطفة تتعلق بجوهر الإمبريالية الأمريكية. مرتكزين بذلك إلى سلم غير موسيقي من الاصطلاحات من نوع "توسعية، عالمية، قيادة عالمية، وحتى العولمة نفسها".

لا مساحة لنقد الإمبريالية الأمريكية ومواجهتها إذا ما تم التسليم بادعاءاتها التي تنقض وجودها

هكذا ببساطة اعتقد أصحاب منهجية الدعاية المهيمنة أمريكيًا أن وحشًا بحجم إمبريالية بلادهم يمكن إخفاءه، أو التعمية عن وجوده. خاصة أن أصحاب هذا الخطاب دأبوا على استبطان مفاصل خطابية تضليلية أمست من الرواسخ في كراسات الوعي غالبًا، أو أكثر عصيانًا للتفكيك والتقويض في ساحة البروباغندا والرد النقدي عليها. لذلك ترسخ في الأدبيات المهيمنة أمريكيًا، أن ما الإمبريالية إلا بدعة أوروبية تنطوي على الاستيلاء على الأرض واستعباد السكان والاستئثار بالموارد.

إنكار الإمبريالية عبر نسخة أخطر منها

في محاولة التمايز الأمريكية عن التجربة الإمبريالية الأوروبية، التي تميزت بنيويًا بفارق أساسي عما ميز الحالة البريطانية منذ 1815 حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى. إذ أن لواشنطن كل هذا الموقع المتصدر، دون أن يكون لها امتداد جغرافي بالمعنى الإمبراطوري الكلاسيكي، كما في الحالة البريطانية والأوروبية قبلها. أي وفق نمط الإمبريالية اللاجغرافية المتمركزة على طبيعة إمبريالية الأبواب المفتوحة بدل الأرض/الجغرافيا المفتوحة/المستعمرة. هنا تحاول واشنطن القول للعالم أنها تفعل الأمور بطريقة مختلفة، وتدعي أنها غير ذات علاقة بما للإمبريالية الأوروبية، فلا تتحدث عن التحضير بل عن "حق تقرير المصير" مثلًا، ولا تعتمد التبشير المسيحياني، إنما الترويج لنسختها، مشوهة المعطيات، من الديمقراطية وبعض الليبرالية.

اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"

 يبدو أن في مثل هذه المحاججة بعدًا نفسيًا مؤسسيًا. بمعنى، أن في هذا المستوى من الخطاب محاولة تجاوز أمريكية لطبيعة دورات التاريخ الإمبريالي، بل والدولتي حتى. أي أن هناك اعتقاد أمريكي مؤسس بتجاوز الحالة "الخلدونية"، من ابن خلدون، يحاول تعويم جرعة من التمايز الإمبريالي الهوياتي لتجربتهم، المتمايزة بنيويًا وأداتيًا عن التجربة الأوروبية أساسًا، من باب العقدة بالاستثنائية "الخيرة" الأبدية، التي لن تكون عرضة للأفول كمثيلاتها كما يؤمن، أو تحب أن تعتقد المدرسة المفاهيمية للإمبريالية الأمريكية.

لا يمكن التعاطي مع مسألة الإمبريالية الأمريكية دون نزع اللثام عن وجودها أساسًا. بما يعني أن لا مساحة لنقد الإمبريالية الأمريكية ومواجهتها إذا ما تم التسليم بادعاءاتها التي تنقض وجودها، وهي قائمة في الواقع بالفعل. بل إن الاستعمار الاستيطاني الذي أسس للولايات المتحدة الأمريكية التي يعرفها العالم اليوم تطور في جانب منه إلى ما هو خارج حدود الأراضي التي أصبحت الولايات المتحدة. لكن ما ميز هذه التجربة دومًا، وسيبقى فاعلًا مميزًا للإمبريالية الأمريكية، أن التوسع الجغرافي ليس على رأس هرم أولوياتها، على الأقل منذ غزوة الاحتلال العسكري للغرب الأمريكي الأوسط  والأقصى والأراضي المكسيكية عندما أصبحت كاليفورنيا وتكساس وقرابة ثلث الولايات الجنوبية الأمريكية، بقدر ما هو النفوذ واستنفاذ الموارد وتوسيع هيمنة رأس المال الأمريكي إلى أقصى الحدود العالمية، حتى إلى الفضاء.

فيما قامت به الإمبريالية الأمريكية بادعاء إمبريالية لا تقوم على الجغرافيا، لكنها تربح السوق، تكمن ثلاث مفارقات أساسية وغير خفية. أولها يتشكل في القناعة الأمريكية أن نمط هيمنتها على السوق العالمي لا جغرافيًا يحقق عبر نظام السوق النيوليبرالي المفتوح ما يمكن للرساميل المتمركزة في الولايات المتحدة، أو تلك الضرورية لها، من ربحية بتكلفة أقل من لعب الدور الكلاسيكي. ثانيها، أن واشنطن مجبرة على تأمين مصالح أسواق أخرى، كالاتحاد الأوروبي واليابان، للحفاظ على سير مصالحها. بينما ثالثها، أن المؤسسات "الدولية" العاملة من خلال نافذة المصالح الأمريكية، بريتون وود مثالًا، غير محايدة ما بين مصالح السوق الأمريكي وغيره من الأسواق "الشريكة". خاصة لدى وضع قواعد اللعب المؤسسية طويلة الأمد، في أكثر لحظات تاريخ الهيمنة الأمريكية "زهوًا"، بعد الحرب العالمية الثانية، انطلاقة "النيوديل"، وبعد الحرب الباردة.

تقدم السردية الرسمية الأمريكية تاريخ توسعها الإمبريالي الخارجي على أنه انطلق مع نهاية حرب الولايات المتحدة مع إسبانيا 1898، أي عندما بدأت الهيمنة الأمريكية على كل من كوبا وغويام والفلبين ومعها بورتريكو التي استمرت حالتها إلى اليوم. لكن النزوع الإمبريالية الأمريكية ذهب خارج الحدود المتعارف عليها اليوم للولايات المتحدة أبكر بكثير من هذا المفصل. أي خلال العقد الثاني من القرن الـ19، حين غزت الولايات المتحدة ليبريا في الساحل الغربي لأفريقيا، لتصبح لاحقًا مستعمرة مطاط شبه خاصة لشركة فايرستون للمطاط. كذلك الحال في شرق آسيا، حيث أسست الإمبراطورية الأمريكية حالة وجود مبكر لها عبر سياسة الباب المفتوح وحق الوصول إلى الموانئ الصينية عام 1844 ليلي ذلك دخولها أرخبيل غوانو في المهيط الهادئ.

اقرأ/ي أيضًا: ميلانخوليا عولمية النيوليبرالية وانعزاليتها

وصولًا إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهي الحقبة شبه المتفق عليها بشأن انطلاق الإمبريالية الأمريكية وبداياتها، علمًا أن البداية كانت أبكر بقرابة قرن من هذا التوقيت، يتبين أن إدراكًا أمريكيًا، أقرب إلى الشعور بالغفلة والتأخر الإمبراطوري كان قد سيطر على دوائر الفعل والقرار الأمريكي. وبدأت العمل العلني بقيادة ثيودور روزفلت وغيره من قادة النهج الإمبراطوري ودعاة التوسع الأمريكي بالاشتغال على ضم الأراضي والتوسع الإمبريالية أكثر من ذي قبل. سواء من خلال غنائم الحرب الإسبانية أو ما عرف بالتعاون مع المصالح التجارية الأمريكية آنذاك، كحالة جزر هاواي مثلًا.

 بدأت عملية الاستحواذ الإمبراطوري الإقليمي هذه تغوص أكثر في حالة من الغموض، أصبحت لاحقًا أبرز مميزاتها عن الحالة الإمبريالية الأوروبية. وهو التوصيف التحقيبي الذي أسس له المؤرخ هوارد زين، ليتبعه الأكاديمي  البريطاني فيكتور بالمر ثوماس مطورًا توصيف "الإمبراطورية شبه العالمية" لأمريكا. التي لم تبنى بدورها نتيجة الاستحواذ على الأراضي بقدر ما ارتكزت على الإبقاء على مجموعات حاكمة في دول أصبحت برمتها عميلة أمريكية، وهذا ما انتهجته واشنطن في عموم أمريكا الجنوبية والوسطى، وعممته على بقية تجاربها في العالم، من خلال القواعد العسكرية والشركات متعددة الجنسيات. لتشكل المنطقة العربية أبرز التمثيلات على تطور هذا النهج ومخرجاته، مثل حالة مملكة آل سعود وإسرائيل وغيرهما.  

"تحرير" الشعوب من أجل استعبادها!

تضرب حالة الفلبين منتهى القرن التاسع عشر قوة مثال فريدة للاستدلال العياني على منهجية الإمبريالية غير الجغرافية الأمريكية. إذ ترافق إعلان النية الأمريكية "تحرير" كوبا من الاستعمار الإسباني وإعلان الحرب على إسبانيا، أن أرسل الرئيس الأمريكي آنذاك ويليام ماكنلي الأسطول الأمريكي الآسيوي إلى ميناء هونغ كونغ. الهدف الأساسي من وراء نشر الأسطول كان نية الهجوم على الأسطول الإسباني في خليج مانيلا. وبمجرد إعلان الحرب على إسبانيا هاجم قائد الأسطول العميد جورج ديوي الإسبان وانتصر عليهم. ليتم الاحتفاء بـ"المحرر" الأمريكي من طرف الثوار الفلبينيين، الذين سرعان ما استفاقوا على حملة تطهير أمريكية بحقهم ليروح ضحيتها قرابة ربع مليون فلبيني. وليختزل وزير الحرب الأمريكي إلياهو روت مجمل الحالة بقوله عام 1900 "لا شيء يمكن أن يكون أكثر لاعقلانية ولا منطقية من الاقتراح القائل بأن هؤلاء الرجال، ثوار الفلبين، يحق لهم أن يتلقوا منا سيادة على كامل البلاد التي كنا نغزوها، حالهم في ذلك حال الهنود الودودون، الذين ساعدونا في حروبنا الهندية، وهم ربما كانوا يدعون سيادة الغرب الأمريكي للغرابة". ما يوضح في مستويات معلنة طبيعة المشروع الأمريكي في "تحرير الشعوب من أجل استعبادها"!.

لم يعني اهتداء الإمبريالية الأمريكية لأدوات الهيمنة غير العسكرية، بالضرورة تحييدها للخيار العسكري أو تجاوزه

لم يكن استقلال الفلبين وسؤال الدولة فيها من بين ما يشغل بال منظرين وقادة الإمبريالية الروزفلتية الأمريكية في حينه. كانت الحيرة ما بين إقامة ميناء وقاعدة عسكرية في مانيلا وبين استعمار كامل الأرخبيل الفلبيني سيدة الموقف الأمريكي. لكن وسط التخوف من الهجمة الارتدادية الإسبانية على الأمريكيين في الفلبين، رجحت كفة الخيار الإمبريالي الكلاسيكي، في نادرة من نوادر التجربة الإمبريالية الأمريكية، ليتم استعمار كامل الفلبين فعلًا.

استمر نهب التبغ وجوز الهند وقصب السكر والقنب والأفيون والعمالة الرخيصة حتى منح الفلبين الاستقلال 1946، لتستمر ذات مصفوفة النهب رفقة القواعد الأمريكية في الفلبين ما بعد استقلالها الرسمي أيضًا، وفق نسق الإمبريالية اللاجغرافية التي كانت أمريكا قد قطعت أشواطًا شاسعة في بلورتها وتطويرها وصولًا إلى منتصف القرن الـ20. ليمكن القول أن نهاية الاستعمار في الفلبين لا تشكل بالضرورة انتهاء الإمبريالية الأمريكية فيها.

عبودية السوق

يمكن العثور على نمط غير فارق عما سبق في الفلبين كثيرًا، لكنه أقرب في الجغرافيا على المركز الإمبريالي الأمريكي. إذ هيمنت واشنطن على مجمل أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي خلال القرن الـ20 عبر تعزيز حضورها في كل من بورتريكو وقناة بنما ومعهما جزر العذراء. لكن الحلول العسكرية والغزوات لم تكن حاضرة بشكل مباشر في الكاريبي، إنما فعلت واشنطن أدواتها الاقتصادية لرسم السياسة المحلية لهذه لدول وإبقاءها ضمن قائمة الدول "العميلة" لواشنطن، كما كوبا مثلًا قبل 1959. كما وظفت الإمبريالية الأمريكية آليات المعاهدات الثنائية غير المتكافئة والحسابات الجمركية غير المتناظرة إلى جانب خلخلة الاقتصادات المحلية والإغراق بفوائد القروض الأمريكية. كذلك حصل في كل من جمهورية الدومينيكان حتى سنة 1942 وهاييتي حتى سنة 1947.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة العميقة.. "مؤامرة" بلا متآمرين

لكن اهتداء الإمبريالية الأمريكية لأدوات الهيمنة غير العسكرية، لم يعني بالضرورة تحييدها للخيار العسكري أو تجاوزه. حتى في المنطقة الكاريبية التي يمكن اشتمام رائحة بارود الحروب فيها من السواحل الأمريكية. دائمًا كان مشاة البحرية الأمريكية حاضرون في هذه البلدان، وفي بعضها لعقود طويلة، كهاييتي ما بين 1915 و1934، وإن لم يكن الجنرالات الأمريكيون، ففواعل محلية تقوم بما ينتوي البنتاغون القيام به، كبينوتشيه في تشيلي مثلًا، أو رافاييل تروخيو في جمهورية الدومينكيان، وهو ما اهتدت الأدبيات الأمريكية المخابراتية على وصفه بـ"الدكتاتور التعاوني" أو "الحليف القاسي والمفيد".

كذلك لا يغيب خيار التخريب والتدخل المباشر وغير المباشر ليس فقط بالتدخل الحربي أو دعم دكتاتور موجود فعلًا، بل اعتماد الانقلابات العسكرية، التي طالما كانت مرؤوسة بفاشيات يمينية ساطعة, كحالة فنزويلا في الستينيات، أو تجربة الانقلابات المتعددة على هوغو تشافيز، أو حتى المشاريع الانقلابية التي تشهدها البلاد منذ سنتين حتى اليوم. 

شكل التوسع الإمبريالي الهجين الميزة الأكثر استمرارية وتراكمية في التاريخ الأمريكي

يمكن القول أن السياسات المالية الأمريكية تفرض قواعدها على السوق العالمي بما فيها من مال وقوة عمل ومنتجات وموارد، وانعكاسات اجتماعية لكل هذه مجتمعة مستفيدة من حالات عدم الاستقرار، وعدم اليقين الاقتصادي، أكثر من استفادتها من معدلات الثبات والنمو. يمكن سوق ما يفسر طابع الهيمنة المالية هذه عبر استحضار تجربتين أمريكيتين وقعتا خلال النصف الثاني من القرن العشرين:

عرفت أسواق المال عام 1979 ما اصطلح عليه "صدمة فولكر"، إذ قام رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، باول فولكر في تشرين الأول/ أكتوبر 1979، برفع معدلات الفائدة على تداول الدولار الأمريكي وفق مشروعه المسمى نظام دولار ووال ستريت، الذي أخضع بموجبه تعاملات السوق الأمريكي والأسواق العالمية لمصفوفة الدولار يحمي الدولار، محررًا الدولار من تأمينه بالذهب. ما استتبع موجة عارمة من التضخم عرفتها الأسواق الأوروبية والآسيوية.  

تحت إدارة كلينتون في 1994-95 شهدت المكسيك أزمة مالية استدعت دفع بيل كلينتون بمجموعة الـ7 الصناعية بالتدخل في السوق المكسيكي. لكن هذا التدخل الذي جرته واشنطن نحو المكسيك لم يسفر عن شيء بقدر تكريس حقوق استثمار وتدخل لرساميل أمريكية أو مقرها في الولايات المتحدة في السوق المكسيكي، ما استدعى توترات ألمانية - بريطانية من جهة مع إدارة كلينتون من جهة مقابلة.

في حقبة كلينتون أيضًا، جاء الرد الأمريكي على الأزمة المالية في أسواق شرق آسيا 1997-98 بأن منعت اليابان من التدخل وعطلت مشروعها لتشكيل صندوق نقد وإقراض آسيوي للتدخل في مثل هذه الأزمات. ودفعت إدارة كلينتون باتجاه احتكار صندوق النقد الدولي للتعاطي مع مثل هذه الأزمات. إضافة لتحقيقها ضربة مربكة لقواعد الرأسمالية الحميمة/ Crony Capitalism. محولة نموذج شرق آسيا الاقتصادي من خصوصية مالية طموحة إلى تبعية نسبية وقسرية لقواعد الخزينة الأمريكية وصندوق النقد الدولي.

يمكن القول، خاصة باستطلاع دور كلينتون في نسف قاعدة جايمس بايكر فيما يتعلق بالحد من توسع حلف شمال الأطلسي أوروبيًا، أن إدارة كلينتون أسست أكثر من أي إدارة أمريكية أخرى لإمبريالية "ناجعة" لا يكون قوامها الجغرافيا بالضرورة. وهو ما قدمت إدارة جورج دبليو بوش إسهامات عملية بشأنه، في كل من أفغانستان والعراق، وحتى إدارة كلينتون نفسها بشأن تلاعبها بملف الصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة الأغنى نفطيًا في العالم بتكلفة لا تذكر، تسدد نفطيًا أو عبر صفقات التسليح، لتبقى ورقة رابحة في يد واشنطن منذ الخمسينات حتى اليوم، ابتزاز العرب بأسطورة الضغط على إسرائيل، والتي تحولت أخيرًا إلى ابتزاز بعض العرب، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، بمن يمكنه شراء تذكرة مباراة التطبيع النهائي مع إسرائيل.

التفوق العسكري بمحل الغرور العرقي

 لا يأتي في باب التعسف القول بأن التوسع الإمبريالي الهجين هو الميزة الأكثر استمرارية وتراكمية في التاريخ الأمريكي. بينما يلحظ في السنوات الأخيرة تراجعًا هامًا في أوساط الرأي العالم الأمريكي والدعم الشعبي للمغامرات الإمبريالية العسكرية الأمريكية. كما تراجعت نسبة الأمريكيين، وإن بفارق غير شاسع، الذين يعتقدون بأن بلادهم يجب أن تحافظ على كونها السلطة العسكرية المتفوقة عالميًا.

ليس بالضرورة عزو هذا التراجع في تغذية سردية التفوق العسكري لأسباب عقائدية أو أخلاقية أو حتى سياسية. إنما للعامل المعيشي اليومي سطوته هنا. إذ ما يهم الأمريكي، على اختلاف مشاربه السياسية، بالتفوق العسكري لبلاده إن كان خبزه اليومي "Junk food"  وتأمينه الصحي في علم الغيب، كما حال رهنه العقاري ودفتره التقاعدي؟!.

كذلك لا تغيب أهمية تراكمية الفشل الأمريكي عن توضيح مدى فداحة فكرة التدخل العسكري الإمبريالي في أصقاع العالم. وما يمكن أن تجره على العالم ومن ضمنه الأمريكيون أنفسهم. فماذا حصد المواطن الأمريكي من غزو العراق، بل ومن كل الغزوات الأمريكية في عالم ما بعد 11 أيلول/سبتمبر. لا شيء يتعلق بأمنه الشخصي والمعيشي والوظيفي. فلا تصب الموارد التي نهبت من العالم بأدوات الإمبريالية الأمريكية في جيب المواطن الأمريكي، إنما تعرف طريقها لمضاربات ووال ستريت وحسابات الرساميل الكبرى في بنوك ما وراء البحار.

تفكك الإمبراطورية أو تفكيكها الممكن جدًا

يبدو الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، على شوفينيته الطافحة وتعنته العنصري واستعلاءه المصلحي الفج مكتفيًا بهذا الجو الكرنفالي من شعبوية تستحق اشتقاقًا مفاهيميًا ما بعد فاشي حقًا على حساب الخيارات الأكثر مباشرة وعسكرية. بينما لم يختفي المعسكر المؤثر الذي يستحضر العسكرة بين أول الخيارات، غير متأثر حتى بتراجع شعبية الخيار في الشارع الأمريكي. لكن حال المعسكرين، أهل العسكرة وأهل التجييش العنصري غير السلمي لكن غير العسكري، يبدو أنه معزول أو لا ينتوي رؤية ما ينضج في العالم من متغيرات.

اقرأ/ي أيضًا: المانيفستو في ضيافة القرن 21

يعيش عالم اليوم محاولات متنوعة وكثيرة من دول وتكتلات إقليمية لأن تتدبر أمورها بنفسها، بعيدًا عن المسطرة الأمريكية، وإن لم يكن بالضرورة وفق حالة قطع تامة معها أو مع معطياتها في السوق العالمي. وهذا ليس في منطقة بعينها في العالم بل ممتد. حتى المكسيك، التي لم تكن من بين الهموم الأمريكية بدأت تنفك شيئًا فشيئًا من السطوة الأمريكية الفادحة. كما لم تعد كثير من الشركات العابرة للقومية تلقي بكامل اعتمادها على السياسات الأمريكية. إذ يمكن استطلاع إحصاءات جنرال موتورز، التي تبيع في السوق الصيني أكثر من أي سوق آخر في العالم دون استنادها للقوة أو الحضور الأمريكي، غير الموجود هناك.

رفض واشنطن الاعتراف بعالم متعدد الأقطاب قائم بالفعل، وتراجع إمكاناتها تجاه الازدهار المحلي من أهم مؤشرات فهم مسار الإمبراطورية الأمريكية المستقبلي

كما شهدت حياة الأمريكيين تراجعًا حقيقًا في تدخل الدولة في حالات الطوارئ، وفي دعم البنية التحتية والتأسيس لها، كذلك بالنسبة لمستوى التعليم العام والصحة، إلى جانب تراجع مستويات الابتكار والإنتاجية. هذا ما أنتجته سياسة الساسة النيوليبراليين في كلا الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، توسيع أكثر للفوارق الطبقية وتعميق للفجوات الاجتماعية، بل وتوفير بيئة أكثر خصوبة لإنباث حركة اجتماعية أوسع يمكن أن تمس صالح قطاعات واسعة من الجمهور الأمريكي، وهنا يمكن فهم جانب من حظوظ الاشتراكيين الديمقراطيين كـألكسندريا أوكازيو كورتيز وبيرني ساندرز ومعهما جوليا سالازار. فماذا يمكن للأمريكي أن يرد على ادعاءات التفوق العلمي والعسكري لبلاده عندما يجد أن بلدًا كالهند يسبر الفضاء عشرات المرات أكثر من وكالة ناسا، بل ويزور المريخ بتكلفة أقل مما كلف فيلم "المريخي" الأمريكي، الذي تم تصويره على الأرض!. أي أن تقويض الازدهار المحلي، الذي هو أساس "شرعنة" الإمبراطورية شبه العالمية أمام جمهورها، يمكن أن يكون أبرز معول في هدم الجدران التي جهدت الإمبريالية طويلًا في التأسيس لها.

إضافة للفاعل المحلي، يمكن رصد فاعل/فواعل وإشارات دولية كثيرة تقول بأن خلخلة ما تحصل ليست في صالح الهيمنة الأمريكية ولا استدامة التفوق الأمريكي. عدد قرارات النقض/الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن في تصاعد ملحوظ. ما يعني، ولو رمزيًا أن أصوات كثيرة تتصادم مع أمريكا اليوم أكثر من ذي قبل. كما تعلمت الكثير من البلدان الدرس تجاه قروض صندوق النقد الدولي، لتعتمد سياسة بناء احتياطاتها المحلية عبر التوافقيات الإقليمية والرهانات المحلية. كما شهد البنك الدولي بروز منافسين حقيقيين ويشكلون خطورة على سيطرته وسطوته في العالم، بنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوي مثلًا، أو بنك التنمية الجديد الذي يمثل دول البريكس. كذلك منظمة الدول الأمريكية، التي تعسفت وتتعسف بحق كل الدول الأمريكية لصالح الولايات المتحدة تشهد استبدالًا واقعيًا اليوم بمنظمة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي التي ضمت كوبا على الرغم من اعتراض واشنطن. بينما الصين تتوسع في منطقة الهادئ وآسيا وتبتلع أفريقيا في حين الولايات المتحدة تراقب.

كل هذا يبدو أنه لم يعبئ عين سدنة الإمبريالية الأمريكية. تصر واشنطن على رؤية العالم من منظورها فقط. "العظمة المطلقة" وفقًا لترامب أو "الحسن الاستثنائي" وفقًا لآل كلينتون. وهذا ما ينذر بكارثة في عالم متعدد الأقطاب ترفض واشنطن الاعتراف به، ولا يمكن ضمان أن تتوصل للاعتراف به سلميًا، حسب طبيعة السائد بين الطبقة السياسية المهيمنة فيها. لكن، ودون أدنى شك، أن العالم لم يفطر على أن يكون أمريكيًا.     

 

اقرأ/ي أيضًا:

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

العصا وسنغافورة.. خديعة فلسطين الكبرى