11-نوفمبر-2015

يعيش اللبنانيون الحدث دائمًا! (جوزيف عيد/أ.ف.ب/Getty)

تحاول الكهرباء أن تجد منفذًا إلى بيروت. يتسرب الضوء إلى الطريق من بعض الأبنية المستحدثة في مكان تلك التي تم هدمها بحجة العمران المدني الحديث. يستمر الصمت لبرهة في البيوت التي فتحت شبابيكها، ليتسرب إليها لحن جورج فردريك هاندل من مقطوعة "زادوك ذا بريست" ويعلن أن منطقة حي اللجا، في قلب العاصمة، باتت الآن تحت سطوة نشيد دوري أبطال أوروبا. وما إن ينتهي حتى يصدح صوت يلعن الدولة. الدولة اللبنانية.

في عام 1992 حين قرر الموسيقار طوني بريتان إعادة توزيع مقطوعة "زادوك ذا بريست" على نشيد يجمع بين اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية، كانت بيروت تشهد على عودة الحياة إليها بعد حرب امتدت خمسة عشر عامًا. والحي الذي يمتد بين قصر زعامة صائب سلام وسوق مارالياس وحسينية الإرشاد كان قد بدأ يعيد تشييد سوق الخضر وتثبيت بعض المراكز الحزبية والزعامات المناطقية التي يمتد بعضها إلى اليوم.

تسقط كل الانتماءات بين الساعة العاشرة إلا ربع ومنتصف الليل في بيروت والولاء يصير للفرق العالمية

لم يتغير نشيد دوري أبطال أوروبا إلى اليوم، كذلك لم يتغير الحي الذي يحتضن جميع الجنسيات والانتماءات والأفكار والمذاهب. فما يجمعه الـ "تشامبينز ليغ" ليلتي الثلاثاء والأربعاء بكل تنوعه الأوروبي، يتجسّد في حيّ اللجا تحت عباءة المنطقة بأكملها مع متابعين لبنان وسوريا والعراق.

تسقط كل الانتماءات السياسية والحزبية بين الساعة العاشرة إلا ربع ومنتصف الليل، الانقسام يكون جليديًا، من دون سياسة إقليمية أو محلية، فيحكم الشارع مدريد وبرشلونة ومانشستر ويوفنتوس. لا أعداء في ليلة دوري الأبطال بل صراع كروي قد يتطور أحيانًا، إلى إطلاق نار "حماسي". لا مكان للصراع الطبقي هناك، لا تفضيل لمسؤول على عنصر ولا فرق بين رجل قوى أمن أو مواطن إلا بالهدف الذي يسجله فريق أحد الطرفين.

تمنح هاتان الساعتان مساواة شاملة بين الناس، تمتد من مومباي إلى كاليفورنيا مرورًا بحي اللجا. فالرهان الكروي أكثر ضراوةً من رهانٍ وطني أو قومي أو مذهبي، ومشاهدة هذه المباريات لها أولويّة كبرى على جميع الأحداث، فتُسقط أقدام رونالدو وميسي وأيدي دي خيا القنوات المحلية عن الشاشة بمختلف توجهاتها، وتختفي طاولات ورق الشدة وتدخل الأراجيل من زوايا الشارع إلى المقاهي مع ارتفاع وتيرة التوتر، أمّا الصرخات المنتظمة مع الفرصة أو الهدف فتكون وحدها متوافقة الرنة مع سلوكيات أي موقف سياسي ممنهج في أوقات الحياة العادية.

في بيروت وفي ليالي دوري أبطال أوروبا لا يتوقف هاتف موزع الستالايت عن الرنين ولا تتوقف أذنيه عن سماع الشتائم

هذا التوتر الكروي الذي يلعب بأعصاب الجماهير في جميع دول العالم، له قائد أوركسترا مختلف في اللجا، لكنه قائدٌ لا يُدير ظهره للمشاهدرين فهو ملزمٌ بالجلوس بينهم، إلا إنّ عصاه هي الآلة التي تتحكم بقنوات المنطقة كلها، وعليه فإن رجل احتكار "الستالايت" يكون قبلة الغضب في اللحظة التي ينقطع فيها البث، فلا يتوقف هاتفه عن الرنين وأذنه عن سماع الشتائم، هو العدو والحبيب في تلك الليلة وكل ما يعتمد عليه الحضور، يتحمل وحده مسؤولية إفشال الليلة أو نجاحها، فإفساد ليلة دوري الأبطال يُعد أسوأ من خسارة معركة سياسية.

قائد الأوركسترا هذا مسؤول عن الفرحة التي يبحث عنها الناس في حي اللجا، فكل يومٍ يحضر فيه دوري أبطال أوروبا هو عيد. لكن هذا العيد لا يشمل انقباضات في الوجوه ناتجة عن ضعف مادي ولا يحتوي على حزنٍ عميق لعدم القدرة على توفير ثمن الثياب لفرحة الأطفال، فهو عيد يحقق المساواة الشاملة في الفرحة، هذه الفرحة المؤقتة التي يصنعها ميسي ورونالدو بعد أن يسرقها السياسيون.


احتفالات جماهير بايرن ميونخ في بيروت

اقرأ/ي أيضًا:

عن الباشورة التي تحرس بيروت وتراقبها

كورنيش بيروت فجرًا.. "متل الهوا لي مبلش ع الخفيف"