ليست السينما مجرّد مشاهد مؤطّرة بحدود الشاشات الكبيرة في الصالات المُعتمة، إنّما تعبير مُباشر عن الحرية، وفنّ بوسعه الوقوف على الخيبات والكوارث والهزائم التي تصيب عالمنا المدوّر. تمامًا كما بوسعه نبش المخبوء وكشف المستور، والتوغّل أيضًا في أماكن تُعدّ إنّها مُحرّمة. والسينما، في تعريفها الأدقّ، هي انحياز إلى حرّية الفرد وكرامة النفس البشرية. ولكن، ماذا نعرف عن صنّاعها؟ نكاد لا نعرف عنهم إلّا ما نقرأه في الصحف أو نراه في الشاشات، دون أن يكون صادرًا عنهم أصلًا. هنا، نستعرض لكم أربعة كتب يغلب عليها طابع السيرة الذاتية لأربعة مخرجين عالميين وعرب.
1- عرق الضفادع
لا يُسمّي أكيرا كورساوا كتابه "عرق الضفادع" (منشورات المتوسّط، 2016) ترجمة فجر يعقوب؛ سيرة ذاتية. المُخرج الياباني يكتفي باستعادة أجزاءً ضخمة من شريط حياته تحت عنوان "ما يشبه السيرة الذاتية"، متوقِّفًا عند المحطّات المُهمِّة في حياته الشخصية وكذا السينمائية. صاحب "ذو اللحية الحمراء" يأخذ قارئه ليُعرِّفهُ إلى كورساوا حينما دخل صالات السينما الصامتة طفلًا، قبل أن ينتقل للحديث عن أخيه الذي فارق الحياة مُنتحرًا بعد دخول السينما الناطقة، وأفول عهد السينما الصامتة التي كان يعمل مُفسِّرًا لأفلامها. حديثه عن شقيقه ليس بعيدًا عن الحديث عن السينما وعوالمها. سنعرف أنّه دخل الأخيرة صدفة، من خلال إعلان للعمل في شركة إنتاج، ولج عبره مختبرات صناعة الفن السابع وأسراره وتفاصيله المثيرة.
2- وحشة الأبيض والأسود
في يومياته المعنونة بـ"وحشة الأبيض والأسود: مفكّرة سينمائي" (دار نينوى، 2016) يحكي محمد ملص (1945) أكثر ممّا يكتب. المخرج الذي ربط مكابداته الشخصية بأحلامه السينمائية، يتعامل مع الحكاية على أنّها سبيل للثأر من أزمنةٍ مضت، عنوانها: مرفوض، ممنوع. حصل الرقيب فيها على الحرّية الكاملة لمنع شريط وإتلاف غيره أو إعاقة تنفيذه. "تبدو الفرص عائمة، وأشبه بجزرة معلّقة أمامنا تحرّضنا على الاندفاع فنلهث للامساك بها، لكنها تبتعد كلّما مضينا ورائها". بهذه الكلمات، يتحدّث صاحب "الليل" عن تجربته السينمائية في مرحلةٍ كانت حفرة أو مقبرة تبتلع المشاريع المجهضة، من بينها مشروع "القرامطة" الذي اتفق مع الراحل عمر أميرلاي على تنفيذه، برفقة صنع الله إبراهيم. يقول واصفًا علاقته بالراحل: إنّنا سينمائيو العين البصيرة، والكاميرا المفقودة".
3- النحت في الزمن
لا يُعرّف كتاب أندريه تاركوفسكي "النحت في الزمن" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 2006) ترجمة أمين صالح؛ نفسه كمرجعية نستند إليها في تفسير أفلام المُخرج الروسيّ. الكتاب، في جزءٍ منه، أقرب إلى سيرة ذاتية غير تقليدية. وفي جزءٍ آخر، يبدو رحلة في السينما، أو مساحة يعرض فيها الأخير قضايا سينمائية شائكة ومُعقّدة، يراها تاركوفسكي من منظوره الشخصيّ، وزاويا مختلفة عمّا هو سائد، وكأنّه ينتحت في الزمن تمامًا، والهدف إظهار صورة يقينية يضعها في مواجهة قضاياها الشائكة، للسينما. ولن يغفل صاحب "المطارد" ما يخصّ ويتعلّق بأفلامه وأحلامه، ما أنجز منها، وما أُجهض أيضًا. ذلك أنّه، أساسًا، كان يشعر بأنّ كتابة اليوميات بات لزامًا عليه. هكذا، يضع القارئ إزاء تخطيطات لأفلام عديدة لم تنجز، تمامًا كما لو أنّه يرغب في جعل القارئ يتعامل مع كتابه وفقًا لطقوس الصالة المعتمة.
4- الحياة قصاصات على الجدار
لم يكتب قيس الزبيدي سيرته في كتاب "قيس الزبيدي: الحياة قصاصات على الجدار" (هاشيت أنطوان/ نوفل، 2019)، وإنّما أتاح لمحمد ملص، مؤلّف الكتاب، أن يروي أجزاءً منها، ضمن إطارات وسياقات بدت وكأنّها مُحدّدة مسبقًا. المذكّرات المروية باقتضاب شديد، تبدو أقرب إلى استعادة لأعمال المخرج العراقيّ، أو استعادة للمناخات والأجواء التي أُنجزت فيها، ما يؤهّل الكتاب ليكون أكثر من سيرة سينمائية لملص والزبيدي ورفقاء جيلهما فحسب، وإنّما وثيقة عمّا حدث ذات يوم في تاريخ صناعة السينما العربية وتطوّرها، بحسب تعبير الكاتب والناقد الفلسطينيّ فيصل درّاج. قبل ذلك، سيذهب صاحب "اليازرلي" لاستعادة شذراتٍ من طفولته المتشظّية بين منزلي والديه المنفصلين، ومغادرة العراق، واقامته في دمشق، وعمله في مؤسّسة السينما السورية التي يختزل تجربته معها بالقول: "كان التعامل معي يبطّن أنّهم يريدون أن يقولوا لي: إنّك غريب، وعليك أن ترحل".
اقرأ/ي أيضًا: